النهار

هل تتفكّك بلجيكا بحلول 2030؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
راقِبوا انتخابات حزيران/يونيو المقبلة
هل تتفكّك بلجيكا بحلول 2030؟
سجاد الزهور في بروكسل، 2018 (أ ب)
A+   A-

"تريدون الانفصال؟ اتبعوا الفْلَمَنك". كان هذا عنوان مقالة ليونيد برشيدسكي في شبكة "بلومبرغ" سنة 2014. والفلمنك أو الفلامان إثنيّة ناطقة باللغة الهولنديّة في شمال بلجيكا (الفلاندرز).

 

اليوم، وبعد عشرة أعوام، يمكن تكرار الجواب نفسه عن الأسئلة المنتشرة بشأن مصير بلجيكا: "اِتبعوا الفلمنك".

 

أواسطَ الشهر الماضي، صدر استطلاع رأي وجد أنّ قسماً كبيراً من الفلمنك يريد الاستقلال. حين سئل المستطلَعون عمّا إذا كان يجب على الفلمنك "الحصول على الاستقلال مع مرور الوقت"، أجاب 40 في المئة بـ"نعم". لكنّ 47 في المئة قالوا إنّهم يودّون رؤية سحب المزيد من صلاحيّات السلطة الفدراليّة لمصلحة الحكومات المحليّة، في مقابل معارضة 40 في المئة لهذا الخيار.

 

بلجيكا هي دولة فدراليّة تحظى فيها المجموعتان الإثنيّتان الأساسيّتان، الفلمنك والوالون (ناطقون بالفرنسيّة في جنوب البلاد)، بخمس مقاطعات لكلّ منهما. وهناك أيضاً أقليّة (1 في المئة) ناطقة باللغة الألمانيّة تقطن في مقاطعة لييج الوالونيّة (أقصى الشرق). تبلغ مساحة البلاد 30689 كيلومتراً مربّعاً ويبلغ عدد سكانها نحو 12.5 مليون نسمة. يمثّل الفلمنك نحو 60 في المئة من سكّان البلاد والوالون أقلّ من 40. تتمتّع العاصمة بروكسل بوضع خاص وهي تقع في منطقة الفلاندرز وتضمّ ناطقين باللّغتين. تحوّلت بلجيكا من النظام الوحدويّ إلى الفدراليّ سنة 1993 من أجل استيعاب التمايزات بين الأقلّيّتين. لكن يبدو أنّ النظام الجديد عاجز عن حلّ كلّ التناقضات.

 

أرقام قياسيّة

عند منعطفات سياسيّة عدّة، وجدت بلجيكا نفسها أمام انسداد أفق شبه مستعص. يرجع ذلك جزئياً إلى أنّه عادةً ما يميل الفلمنك إلى انتخاب اليمين أو حتى اليمين المتطرّف كما حصل مؤخراً، فيما يميل الوالون إلى انتخاب اليسار (الحزب الاشتراكيّ) والأحزاب البيئيّة. أدّى ذلك إلى عرقلة تشكيل الحكومات. على سبيل المثال، وبعد انتخابات 2007، تأخّرت بلجيكا 194 يوماً كي تشكّل حكومة جديدة. بعد انتخابات 2010 التشريعيّة، أمضت بلجيكا 541 يوماً كي تحقّق ذلك.

 

ليس لأنّ بلجيكا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي تشهد مثل هذه المراوحة، لكنّها تتميّز بأرقام قياسيّة في هذا المجال. وهي لا تخشى تحطيم أرقامها الخاصّة. سنة 2020، استغرق تشكيل الحكومة 653 يوماً. باختصار، أمضت البلاد، في العقد الثاني من هذا القرن وحسب، أكثر من 3 أعوام بدون حكومة.

 

اللافت أنّه تمّ التوصّل إلى تشكيل تلك الحكومة من دون أكبر حزبين محسوبين على الانفصاليّين أو الاستقلاليّين في الفلاندرز، بحسب انتخابات أيّار (مايو) 2019: "التحالف الفلمنكيّ الجديد" وهو حزب قوميّ من يمين الوسط (N-VA) و"المصلحة الفلمنكيّة" (VB) حزب من أقصى اليمين. في حديث إلى كيفن كونولي من "بي بي سي"، أبدى رئيس الكتلة النيابيّة لـ"التحالف الفلمنكيّ الجديد" بيتر دي روفر استياءه الشديد ممّا حصل حينها: "67 في المئة من البلجيك هم فلمنك، ثلثا الثروة الوطنيّة يتمّ توليدهما في الفلاندرز وغالبيّتهم غير ممثّلة في هذه الحكومة".

 
 
 

عندما يكون الناتج القوميّ للإثنيّات المتعايشة بصعوبة غيرَ متوازن، تصبح المشكلة أكبر. على سبيل المثال، ظهّرت تداعيات أزمة "كوفيد-19" المزيد من التوتّرات حين استاء الفلمنك الأكثر ثراءً من فكرة تمويل تعافي المجتمعات الوالونيّة. حتى مع بداية انتشار الجائحة، وربّما بتأثير من الاختلافات الثقافيّة، كان الوالون يريدون اتّباع النموذج الفرنسيّ في الإغلاق، بينما تردّد الفلمنك حيال ذلك.

 

تنعكس هذه الاختلافات أحياناً على القضايا الخارجيّة أيضاً. سنة 2018، انهارت الحكومة بعدما استقال منها "التحالف الفلمنكيّ الجديد" بسبب اعتراضه على توقيع ميثاق مراكش بشأن المهاجرين. سنة 2016، تردّد الوالون بالموافقة على توقيع الاتّحاد الأوروبيّ على اتّفاقيّة التجارة الحرة مع كندا "سيتا". كاد ذلك أن يؤدّي إلى إسقاط الاتّفاقيّة برمّتها قبل منح الوالون بروكسل الضوء الأخضر.

 

"كومة رماد"؟

تقترب بلجيكا من محطّة انتخابيّة مفصليّة جديدة في 9 حزيران (يونيو). ويبدو أنّ أكبر حزبين في الفلاندرز لا يزالان مصمّمين على الاتّجاه نفسه. في حديث إلى "بوليتيكو" الصيف الماضي، قال رئيس "المصلحة الفلمنكيّة" توم فان غريكن: "نعتقد أنّ بلجيكا زواجٌ إكراهيّ. إذا أراد أحدهما الطلاق، فسنتحدّث عن ذلك كراشدين... علينا أن نصل إلى تقسيم منظّم. إذا لم يريدوا المجيء إلى الطاولة، فسنفعل ذلك بطريقة أحاديّة الجانب".

 

لم يتحدّث فان غريكن من فراغ. أظهرت استطلاعات رأي عدّة أنّ حزبه بات الأوّل في مناطق الفلاندرز مع أكثر من 27 في المئة من المؤيّدين. سنة 2019، كان "التحالف الفلمنكيّ الجديد" هو الذي احتلّ المركز الأوّل. إذا حصل فان غريكن على المركز الأوّل في الانتخابات فقد يطرح الانفصال بعد خمسة أعوام. سيصادف ذلك تقريباً الذكرى المئتين لتأسيس دولة بلجيكا سنة 1830.

 
 
 

في كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، كتب الباحث في مجلس العلاقات الخارجيّة جيمس ليندسي أنّه "حين يصوّت البلجيك في شهر حزيران المقبل... قد يقرّرون بطريقة غير مباشرة ما إذا كانت بلجيكا ستصبح كومة رماد تاريخيّة". لكنّ الصورة ليست بهذه البساطة.

 

جرياً على العادة، قد لا يمدّ "التحالف الفلمنكيّ الجديد" يد التعاون إلى الفائز بسبب طروحاته اليمينيّة المتطرّفة. هما لا يتشاركان الحكم حتى محلّيّاً. ومع افتراض حصول العكس، قد لا يحصل الحزبان على الأغلبيّة المطلقة في البرلمان. وفي حال تجاوز هذه العقبة ثمّة العديد من الأسئلة عن طريقة الانفصال. وكثرة الخيارات المطروحة تعني أن لا خريطة طريق إلى الأمام بصرف النظر عن النتائج الانتخابيّة.

 

حتى فكرة انضمام الفلاندرز إلى هولندا والوالون إلى فرنسا لم تكن بعيدة من التداول. ثمّ هناك مصير بروكسل ومصير الأقليّة الألمانيّة ومصير الديون بعد الانفصال. هذا من دون ذكر ما إذا كانت الدولتان الجديدتان ستبقيان حكماً في الاتّحاد الأوروبّيّ أم سيتعيّن عليهما سلوك مسار الانضمام الذي تسير عليه أيّ دولة خارجيّة ترغب في أن تصبح عضواً في الاتّحاد.

 

ولأكثر من سبب، لن يرضى الفلمنك ولا الوالون بالتخلّي عن العاصمة للطرف الآخر، بحسب ما قاله أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة فريجي بروكسل (فرنسيّة) ديف سينارديه لصحيفة "بروسلز تايمز" في 17 نيسان (أبريل). غير أنّ بعض الفلمنك مستعدّون للتضحية ببروكسل من أجل تكوين دولتهم الخاصّة.

 

هذه هي المفارقة في بلجيكا. لا يتوقّف الحديث عن الانفصال أو التقسيم أو الكونفدراليّة (الأخيرة يطالب بها "التحالف" أكثر)، وبالرغم من ذلك، ما من خطوات عمليّة تلوح في الأفق. كما أنّ نسبة الـ40 في المئة من الفلمنك المطالِبة بالانفصال هي إمّا نسبة ثابتة تقريباً منذ عقد ونصف، أو حتى تحمل مبالغات كبيرة بسبب خطأ في المنهج، كما قال خبراء عن الاستطلاع الأخير. ويقول آخرون إنّ الآراء تتبدّل بين أوقات التوتّر والشّلل من جهة وأوقات الرّخاء من جهة أخرى.

 

بالعودة إلى بعض التوقّعات النظريّة

سنة 2022، لفت المحلّل السياسيّ البلجيكيّ جول غود إلى أنّ تقسيم بلجيكا أمرٌ حتميّ ولا يمكن عكسُه: "إنّه مكتوب في النّجوم"، بحسب تعبيره في صحيفة "لوموند" الفرنسيّة. "لكنْ تم بذل كلّ شيء لتأخيره. إنّها استراتيجيّة المماطلة: النزعة للتأجيل، للهُمود". وفي تأييده لفكرة أنّه لن يكون للوالون سوى فرنسا لطلب مساعدتها، استشهد غود بكلام للرئيس الفرنسيّ الأسبق شارل ديغول خلال حديثه مع أستاذ جامعيّ بلجيكيّ: "أنا على قناعة بأنّ استيلاءً من دولة كفرنسا يمكن أن تضمن مستقبل 3 إلى 4 ملايين والونيّ".

 

بسبب ضعفهم الاقتصاديّ بالنّسبة إلى الشمال – وتاريخيّاً كان الأمر معكوساً – لا يريد معظم الوالون الانفصال. لكن إذا حدث الأمر فإنّ نصفهم يريد الانضمام إلى فرنسا كما أظهر استطلاع سنة 2016. كانت هذه النسبة 30 في المئة فقط سنة 2010.

 

لقد تمكّنت المجتمعات البلجيكيّة تدريجيّاً من انتزاع سلطات كثيرة من الدولة المركزيّة عبر إصلاحات متعاقبة منذ السبعينات، واستفادت منها حتى الأقلّيّة الناطقة بالألمانيّة. ساعد ذلك إلى حدّ بعيد في التخفيف من الصدمات الداخليّة وإعطاء الفلمنك استقلالاً ذاتيّاً من خلال تسويات متتالية وبسياسة غير مكلفة. وقد يساعد أيضاً في تجنّب البلاد تفكّكاً عنيفاً، إذا كان هذا المسار هو الذي ستسلكه في المستقبل.

 

هذا ما توقّعه إلى حدّ بعيد المحلّل السياسيّ البلجيكيّ في مجلّة "لو ڨيف" (فرانكوفونيّة) كلود ديمولان سنة 2019. بحسب رأيه، لن تصمد بلجيكا حتى سنة 2030 بشكلها الفدراليّ. مع ذلك، أضاف: "لن يكون هذا نهايةَ العالَم. ولن يكون نهاية نموذج التّسوية الذي نتّبعه. من المؤكّد أنّ بلجيكا ستتحوّل على نحو متزايد إلى قوقعة فارغة. لكنّ الحدّ الأدنى من بلجيكا أفضل من الشّلل الحاليّ...".

 

صياغةٌ مشابهة لـ"نهاية" بلجيكا المفترضة وضعها رئيس "التحالف الفلمنكيّ الجديد" بارت دي ڨيفر في مقابلة صحافيّة سنة 2011: هي ستتوقّف عن الوجود بشكل هادئ، "بطريقة بطيئة، مثل الشّمعة، بالكاد يلاحظها أحد".

 

ربّما تتعزّز الملاحظة بعد انتخابات 2024.

اقرأ في النهار Premium