النهار

"صقر الصّقور"... لماذا خفّض بوتين منصب باتروشيف؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
صديق آخر لبوتين قد يكون "ضحيّة" التبديلات الأخيرة في المناصب الرسميّة.
"صقر الصّقور"... لماذا خفّض بوتين منصب باتروشيف؟
الأمين العام السابق لمجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف (أ ف ب)
A+   A-

نال وزير الدفاع السابق سيرغي شويغو حصّة الأسد من الأضواء الإعلاميّة بعد استبعاده من الوزارة في الحكومة الروسيّة الجديدة. كان ذلك مفهوماً لأنّ دور وزارة الدفاع كبير في غزو أوكرانيا. لكنّ مستقبل شخصيّة سياسيّة لا تقلّ أهمّية عن شويغو، وعلى الأرجح هي أهمّ، يستحقّ النقاش أيضاً: الأمين العام السابق لمجلس الأمن الروسيّ نيكولاي باتروشيف.

 

بعدما عيّن الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين أندريه بيلوسوف في وزارة الدفاع، نقل شويغو إلى الأمانة العامّة لمجلس الأمن الروسيّ، أي إلى المنصب السابق لباتروشيف. أوّل سؤال تبادر إلى الأذهان هو ما إذا كان بوتين قد خفّض رتبة شويغو. تتفاوت الأجوبة بين من يعتقد أنّه نُقل من منصب إلى آخر على المستوى نفسه من الأهميّة، وبين من يعتقد أنّ الأمر عبارة عن خفض ملطّف لمنصبه، وبالتحديد، عن "هبوط سلس".

 

مع باتروشيف، يبدو الجواب أكثر وضوحاً. عمد بوتين فعلاً إلى "خفض رتبة" صديق آخر له بحسب توصيف "رويترز". فقد عيّنه في منصب مساعد خاصّ لشؤون بناء السفن. صحيحٌ أنّه في روسيا، من غير الضروريّ تولّي منصب بارز للحصول على إصغاء الرئيس. لكن ألا يتطلّب المنصب الجديد تقنياً أو بيروقراطياً أكثر من تطلّبه رجلاً أمنيّاً أو سياسيّاً؟

 

"تقاعد مشرّف"

باتروشيف هو خرّيج معهد لينينغراد (سانت بطرسبورغ) لبناء السفن سنة 1974 وعمل مهندساً في مكتب المعهد لتصميم السفن قبل الانتقال إلى عالم الاستخبارات. إذاً ليس باتروشيف غريباً عن متطلّبات المنصب الجديد. مع ذلك، لا يزال المنصب يمثّل ما هو أقلّ من طموح شخصيّة كباتروشيف الذي كان يعدّ حتى وقت قريب ثاني أقوى رجل في البلاد بعد بوتين. ففي روسيا، لا وجود لمنصب مستشار للأمن القوميّ أو لمنصب مدير الاستخبارات الوطنيّة، كما هي الحال في الولايات المتحدة مثلاً. لذلك، تمكّن باتروشيف من تولّي الدّورين معاً ولو بشكل غير رسميّ.

 

خدم باتروشيف مع بوتين في الـ"كي جي بي" منذ السبعينات في لينينغراد. منذ ذلك الحين، عمل في مناصب استخباريّة عدّة قبل أن يتبوّأ، بمرسوم من الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، رئاسة "جهاز الأمن الفدراليّ" (أف أس بي) سنة 1999 خلفاً لبوتين. وفي سنة 2008، عيّن بوتين باتروشيف في الأمانة العامّة لمجلس الأمن الروسيّ.

 

يُعرف عن باتروشيف بأنّه "متشدّد المتشدّدين" و"صقر الصقور" بحسب تقرير في "بوليتيكو" أضاء على إيمانه بنظريّات المؤامرة حيال الغرب مثل أنّ كوفيد-19 صُنع في أميركا وأنّ بولندا لا روسيا هي التي تتحرّك لغزو أوكرانيا. ونقلت المجلّة عن المحلّل نيكولاي بتروف قوله إنّ المنصب الجديد لباتروشيف هو بمثابة "تقاعد مشرّف" له.

 

أخطاء باتروشيف المحتملة

كانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد نقلت عن مصادر لها، من بينها ضابط استخبارات روسيّ سابق، أنّ باتروشيف هو من خطّط لعمليّة إسقاط طائرة قائد منظّمة "فاغنر" السابق يفغيني بريغوجين في آب (أغسطس) 2023 انتقاماً من تمرّده العسكريّ في حزيران (يونيو). نفى الكرملين تقرير الصحيفة وقال إنّ قنبلة يدوية انفجرت على متن الطائرة.

 
 
 

(باتروشيف - موقع البعثة الروسية الدائمة لدى الاتحاد الأوروبي)

 

إذا كان صحيحاً أنّ باتروشيف دبّر عمليّة الاغتيال فقد يكون تسرُّب هذه العمليّة إلى الصحافة الغربيّة مقلقاً لبوتين بما أنّه يفترض بقرار كهذا أن ينحصر بحلقة ضيّقة من المعنيّين. يمكن أن تعدّ هذه الثغرة إخفاقاً لباتروشيف. لكنّ الإخفاق الأكبر والأكثر وضوحاً هو غياب أيّ مواجهة أمنيّة لتمرّد بريغوجين. لقد وصل الأخير إلى مشارف العاصمة مجتازاً أكثر من 500 كيلومتر بعدما انطلق من روستوف أون دون بينما كانت كلّ روسيا مشلولة.

 

من "جهاز الأمن الفدراليّ" مروراً بمجلس الأمن الروسيّ والاستخبارات العسكريّة وصولاً إلى الحرس الوطنيّ، كان الجميع غائباً عن السّمع تقريباً. القلّة التي كانت حاضرة، مثل نائب رئيس الاستخبارات العسكريّة اللفتنانت جنرال فلاديمير أليكسييف، ذهبت لتفاوض بريغوجين. كان باتروشيف وشويغو ورئيس هيئة الأركان الروسيّة الجنرال فاليري غيراسيموف من بين الغائبين عن السّمع أيضاً.

 

"الأستاذ الكبير"

من هنا، قد لا يكون تغيير المناصب بهذا الشكل بعيداً من أن يكون عقوبة مخفّفة على الفشل الاستخباريّ والميدانيّ في مواجهة تمرّد بريغوجين. وقد لا يطول كثيراً بقاء غيراسيموف في منصبه، خصوصاً إذا طالب وزير الدفاع الجديد باسم آخر يثق به لتولّي الحرب. تقول الصحافيّة والمرشّحة الرئاسيّة السابقة كسينيا سوبشاك: "نعم، بوتين أستاذ كبير (grandmaster): بعد المواجهة بين بريغوجين وشويغو وتمرّد بريغوجين، فهِمَ أنّه كان عليه إزاحة كليهما، واحد بطريقة سريعة ودراميّة، والآخر بدفع لطيف".

 

ربّما اختار بوتين موعد هذا "الدفع اللطيف" في توقيت لا يثير تكهّنات كثيرة على قاعدة أنّ هذه التغييرات طبيعيّة مع بداية كلّ ولاية رئاسيّة. لكن بالرغم من ذلك، يمكن أن يكون سبب هذه التعديلات متعلّقاً بالمستقبل لا بالماضي. بعبارة أخرى، إذا كان القرار مرتبطاً باستياء بوتين من أداء مسؤوليه خلال التمرّد فالسؤال يصبح مشروعاً عن سبب الإبقاء على "مقصّرين" آخرين في مناصبهم مثل مدير جهاز "أف أس بي" ألكسندر بورتنيكوف ومدير الاستخبارات الخارجيّة سيرغي ناريشكين ورئيس الحرس الوطنيّ فيكتور زولوتوف.

 

قراءة أخرى

قد يكون الهدف الأساسيّ من التعديلات إعادة توزيع مراكز القوى داخل حلقة الحكم في الكرملين بعدما تضخّم نفوذ بعضها. الباحثة في برنامج روسيا وأوراسيا ضمن معهد "تشاتام هاوس" الملكيّ سامانثا دو بندرن دافعت عن هذا الرأي في صحيفة "ذا غارديان".

 
 
 

(بوتين يصافح باتروشيف - أب)

 

لم تستبعد دو بندرن أن يكون بوتين قد أراد في تعييناته الجديدة "تحييد" خصوم أقوياء لتعزيز قبضته على الحكم وتفادي أيّ انقلاب جديد. فبيلوسوف لا يأتي من أيّ قاعدة قويّة، بينما عوّض الرئيس الروسيّ على باتروشيف عبر منح نجله دميتري ترفيعاً من وزير للزراعة إلى نائب لرئيس الوزراء للشؤون الزراعيّة. بذلك، يضمن بوتين أن يبقي على ولاء باتروشيف من خلال الإمساك بمستقبل نجله السياسيّ، بالتوازي مع تقييد محتمل لنفوذه.

 

إذا كانت هذه القراءة صحيحة فمعناها أنّه في أروقة الكرملين، كما في العلاقات الدولية، لا مكان للصداقات الدائمة. ربّما لهذا السبب، يتطلّب التعامل مع مراكز القوى المتبدّلة هناك "أستاذاً كبيراً".

اقرأ في النهار Premium