تُصادف في هذا العام الذكرى الـ80 للهجوم الذي أدّى إلى تحرير أوروبا الغربية من الحكم النازي، والذي بدأ على شواطئ القناة الإنكليزية في 6 حزيران (يونيو) 1944، حاملاً اسم "يوم النصر". وستحيي الأطراف المتحاربة السابقة ذكرى هذا الحدث التاريخي اليوم بحفل في منطقة الهبوط "أوماها بيتش" في بلدية سان لوران سورميريوم، بحضور الرئيس الأميركي جو بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتس، إلى جانب شخصيات أخرى بارزة من رؤساء دول وحكومات.
اليوم، بعد ثمانية عقود على نهاية تلك الحرب، ماذا عن الشراكة التي ساهمت في وضع حدّ لمآسيها، وهل يمكن استغلال هذه الذكرى لمنح العلاقات عبر الأطلسي زخماً جديداً؟
تحدّيات وأوقات غامضة
تعيش العلاقات عبر الأطلسي اليوم أوقاتاً غامضة، وتمرّ في حالٍ من عدم اليقين، بعدما ولّدت الحرب الروسية ضدّ أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 عدم استقرار جيوسياسي. في هذا الإطار، يقول الباحث السياسي أرنيه إكهوف لـ"النهار العربي" إن الشراكة عبر الأطلسي تواجه تحدّيات كبرى، ليس في التعامل مع الأزمات المتعددة فحسب، إنما أيضاً في قضايا التعاون داخل التحالف الغربي الذي يقف أمام مجموعة كبيرة من المصاعب وباقة متنوعة من الشكوك المحتملة، في عام انتخابي بامتياز. وسيكون لنتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في الخريف المقبل تأثير حاسم في مسار تطور الشراكة عبر الأطلسي، فضلاً عن الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقرّرة بين 6 حزيران (يونيو) الجاري و9 منه، والتي تُشكّل على ما يبدو تحدّياً للأحزاب المحافظة أمام صعود الأحزاب اليمينية المتطرّفة، وعلى رأسها حزب "الجبهة الوطنية" في فرنسا بزعامة مارين لوبان، وحزب "البديل من أجل ألمانيا"، وحزب "من أجل الحرّية" اليميني المتطرف في هولندا بزعامة خيرت فيلدرز، والذي حقق أخيراً نتائج انتخابية باهرة.
يضيف إكهوف أن على التحالف عبر الأطلسي مواجهة تحدّيات أمنية عدة، "بينها سبل التعامل مع المخاطر الإسلاموية، وتهديدات الإرهاب الدولي، فيما تستعد فرنسا وألمانيا لاستقبال حدثين رياضيين كبيرين في الأسابيع القليلة المقبلة، ومكافحة تهديدات الإرهاب الدولي في سوريا وأفريقيا، في وقت تتغير هياكل القوة العالمية، من الأمن والقيم إلى الرفاهية المجتمعية".
في السياق نفسه، ترى الباحثة السياسية والأكاديمية الألمانية غِرلنديه غرويتِل، أن القدرة على العمل والترابط بين ضفتي الأطلسي اتسمت خلال العقود الماضية بالمنافسة أكثر مما اتسمت بالتعاون، مشيرة إلى وجود أنماط سياسية راسخة وتأثيرات اجتماعية مع التفاوت في الدخل والثروة، خصوصاً في دول جنوب أوروبا، إضافة إلى التباين في الأهداف البيئية، "حيث يريد الأوروبيون انتهاج سياسة مناخية ملزمة هدفها خفض الانبعاثات ضمن هياكل المعاهدات الدولية، فيما يشكّك الأميركيون، خصوصاً الجمهوريون في الكونغرس، في هذه السياسات". ويبدو برأيها أن ثمة صعوبة تحول دون التغلّب على هذه العقبات.
من جهة ثانية، تبيّن دراسة للباحثين فلوريان بولر وستيفان هاغيمان أن الشراكة عبر الأطلسي "لا تخرج من الظل إلّا في وقت الأزمات"، وخلصا إلى أن لهوية السياسة الأمنية الخاصة بحلف شمال الأطلسي "تصورات متباينة وأفكاراً مختلفة، وصار التقاسم العادل للأعباء موضع تحدٍّ، وربما نشهد تغيراً جذرياً في عدم التماثل في القدرات العسكرية، مع الخشية من تراجع القدرة المستقبلية للمجتمع الأمني بشكل عام على التحرك". وهنا، يجب عدم إغفال ترتيب العلاقة المستقبلية مع موسكو، فهذه معضلة بحدّ ذاتها، بحسب بولر وهاغيمان، فضلاً عن التحدّي الذي يفرضه التعامل مع الصين على المستوى الدولي، في ضوء تهديدها التنمية الاقتصادية والعسكرية في العالم.
أوروبا وتوطيد الشراكة
يعتبر خبراء أمنيون أن فوز دونالد ترامب في السباق نحو البيت الأبيض يُعيد التخبّط إلى علاقات الولايات المتحدة بأوروبا وحلف شمال الأطلسي. فمعلومٌ أن همّ ترامب الأساسي هو "تقاسم الأعباء" في الإنفاق الدفاعي، وهو معروف بتردّده في التزام الدفاع الجماعي، وبتجاهله القيم الغربية المشتركة. من هذا المنطلق، وفي غياب تقاطع المصالح عبر الأطلسي إن عاد ترامب، ربما ينبغي أن تتكيّف أوروبا مع المتغيّرات والمواقف الأمنية المستجدة، ومع تأثير دول صغيرة داخل الاتحاد الأوروبي مثل المجر التي تتماهى مع روسيا، وأن تواصل تعزيز المؤسسات الأوروبية لتضمن استقرارها وأمن مصالحها المتنوعة والمتباينة، ولتضمن أيضاً موقفاً موحّداً في إدارة الأزمة مع الصين، ومكافحة التغيّر المناخي.
إن الاضطراب الذي سيسود الشراكة عبر الأطلسي بعودة ترامب يهدّد التحالفات الأمنية والمؤسسات الدولية والتجارة الحرة، فهو يرى أميركا قوةً رائدة في القضايا العالمية، ويضع المصالح الأميركية في المقام الأول، ويدعو إلى سياسة خارجية تشكّك في أي التزام دولي تفرضه الاتفاقيات الدولية. لذا، تبيّن قراءات سياسية تستشرف العلاقات عبر الأطلسي، أن حالاً من عدم الثقة تعرّض الإجماع عبر الاطلسي للخطر، فهناك ثغرات في إدارة العلاقات داخل التحالف يجب مقاربتها بطريقة مختلفة، وتحديداً في المجالين العسكري والأمني، وفي مسألة الاستقلال الدفاعي عن واشنطن، وفرض القوانين الضريبية على الصادرات الأوروبية، على الرغم من المواقف الأميركية – الأوروبية المشتركة بشأن دعم أوكرانيا في حربها ضدّ روسيا، خصوصاً استخدام أرصدة فوائد الأصول الروسية المجمّدة في هذا المجال، وأخيراً السماح لكييف بضرب أهداف في روسيا بأسلحة غربية.
بمعزل عن ذلك كلّه، برز تعليقٌ نشرته "مؤسسة كونراد أديناور"، المرتبطة وثيقاً بالاتحاد الديموقراطي المسيحي في ألمانيا (الحزب الديموقراطي المسيحي)، ترى فيه أن مشاركة زعماء الغرب في الذكرى الـ80 لإنزال النورماندي "قد تكون مناسبةً لتعزيز أطر التعاون والسلام والديموقراطية، ولتكن العلاقة بين ألمانيا وفرنسا نموذجاً للمصالحة والصداقة وتعزيز التكامل الأوروبي، بعدما مرّت هذه العلاقة في مراحل مختلفة من العداء". وهكذا، ما عاد الهدف من إحياء هذه الذكرى سرد قصة انتصار الحلفاء على النازية فحسب، إنما تجاوز ذلك إلى طرح موضوع المصالحة، وإرساء القيم الأوروبية، واستخلاص العبر لحسن استشراف المستقبل.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن الاحتفال بذكرى إنزال النورماندي في هذا العام سيكون مختلفاً؛ إذ بدأ تنفيذ برنامج حافل يضمّ أكثر من 350 حدثاً وفعالية على طول شواطئ الإنزال، ويستمر حتى 16 حزيران (يونيو) الجاري، ويشمل مسيرات وألعاباً نارية وحفلات موسيقية، ومعرضاً لمركبات أصلية استُخدمت في الإنزال في عام 1944، وعروضاً لأفلام خاصة بالمناسبة، وإعادة بناء المعسكرات السابقة وغيرها، إضافة إلى مشاركة أعداد من المحاربين القدامى والشهود من السكان، سيروون تاريخاً شفوياً لنهاية الحرب من خلال قصصهم وتجاربهم الخاصة.