شارل سابا*
تخلق الطبيعة في عين الناظر أحياناً كثيرة أوهاماً جميلة، سرعان ما توقظها فداحة التاريخ وهموم المستقبل. هذا أكثر ما يسترعيك في "لو هافر" وجوارها اليوم. فالدروب المتهادية نزولاً بين الهضاب الخضراء للنورماندي الفرنسية الهانئة لا يسلكها إلا طالبو الهروب من زحمة الحياة إلى منتجعات الشاطئ الشاسع. وأفق المحيط الأزرق لا يعوق مدى النظر إليه إلا تراصف السفن الراسية بالياطر، منتظرة دورها لتفريغ حمولتها في أكبر مرافئ فرنسا.
لم يكن الوضع هكذا البتّة قبل 80 عاماً، عند انطلاق عملية "نبتون" في 6 حزيران (يونيو) 1944. يومها، كانت الدروب مكتظّة بالمدرّعات المتخلّفة عن موعدها بقيادة ثعلب الصحراء رومل، فيما تقفل الأفق والشاطئ أسراب السفن والطائرات الأميركية والبريطانية بقيادة أيزنهاور.
لم تكن هذه الحملة البرمائية الأكبر في التاريخ في اتجاه واحد، بمعنى أنها لم تأتِ إلى البرّ الأوروبي بالقوات الأميركية والبريطانية وقوات "فرنسا الحرّة" وحدها، بل افتتحت أيضاً، بمراسم هي الأكثر شدّة وجرأة، خطّ عبور الزعامة العالمية من هذا البرّ إلى الضفة الأخرى للأطلسي.
في النورماندي حينها، لم تُخفِ رفقة السلاح ووحدة العدو بذور التباين في المآلات المرجوّة من إسقاط النازية، وهذا ظهر جليّاً في عبارات تيودور روزفلت وشارل ديغول. ففي حين وضع الأول العملية في إطار "الحفاظ على الولايات المتحدة وحضارتها، ورسالتها العالمية في تحرير البشرية المعذّبة"، شدّد الثاني على تحقيق السيادة الفرنسية وعودة فرنسا حرّة، على الرغم من تكراره الإشادة بجهود الحلفاء.
يختلف مشهد النورماندي شكلاً بين الأمس واليوم، إلا أن تباين الأولويات بقي هو نفسه، لا بل راح ينمو، فيما أغصانه تظهر وتخبو وفق الظرف، طابعاً انتظارات الكثير من الأوروبيين من دولهم، ومن المشروع الأوروبي الموحّد الذي لاح في أفق النورماندي عشية الإنزال، ومن العلاقة مع النظير الأميركي الساعي إلى زعامة العالم.
ليس بعيداً من هذا السياق، يشير الفيلسوف الألماني بيتر سلوترديتش، رئيس كرسي خاص بأوروبا في "كوليج دو فرانس"، في حديث مع "لو فيغارو" الإثنين الفائت إلى أن هدف الأوروبيين منذ انتهاء الحرب كان "ترك التاريخ العالمي"، بمعنى ترك الطموحات السياسية الكبرى، و"التواضع" و"الاهتمام بالحياة الشخصية"، اقتصاداً واجتماعاً وصحة وثقافة.
يمكن ملاحظة هذا الميل الأوروبي حقيقةً باكراً، أي بعد 7 أعوام على انتهاء الحرب، في أساس مشروع الاتحاد الأوروبي، وتحديداً في تحقيق خطة وزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان بإنشاء مجموعة الصلب والحديد لوضع الصناعة العسكرية الألمانية والفرنسية تحت الرقابة المتبادلة، منعاً لعودة السباق إلى التسلّح.
وخلافاً لورشة بناء الوحدة و"السيادة" الاقتصادية، أهملت الدول الأوروبية، باستثناء فرنسا - ديغول، الجهد العسكري، وارتضت منذ اليوم الأول للإنزال بمظلة أميركية تُرجمت لاحقاً بحلف شمال الأطلسي.
في المحصّلة، أبقت أوروبا هذا التباين مع أميركا في إطار التكامل، وبنت وحدتها طابقاً طابقاً، وأعادت صوغ دورها العالمي مستعملة "القوّة الناعمة". وعلى الرغم من انتقال مركز ثقل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي شرقاً، وخروج بريطانيا من الاتحاد، استطاع الجهاز التكنوقراطي في بروكسل تجاوز الخضّات الناجمة عنه بالاعتماد على خطوات فوقية للسلطات التنفيذية للدول الأوروبية، من دون أن تكون تلك الخطوات شعبيّة بالضرورة.
عليه، شكّلت الحرب الأوكرانية الدليل الأنصع والاختبار الأدقّ لكلّ ما سبق، إذ رفعت الدول الأوروبية موازنات دولها العسكرية بشكل كبير، فتهدّدت أولوياتها الاقتصادية عبر التضخم الكبير المدفوع بارتفاع أسعار الطاقة. إلا أن الوحدة الأوروبية صمدت، والعلاقة مع الأخ الأكبر الأميركي توطدت.
هذا نصف الصورة فقط!
قابل الصمود أمام الصدمة الأولى للتوترات الجيوسياسية مع روسيا والصين أثمان بنيوية في الجسدين الداخليين لكل من أميركا وأوروبا.
فالفوالق الكبرى لم تنحصر موضعياً في أوكرانيا وتايوان، بل تعدّتهما إلى مجالات اقتصاد الطاقة البديلة، والذكاء الاصطناعي، وانتشار التكنولوجيا النووية، والصراع على المعادن النادرة، وطرق التجارة الدولية، والأراضي الخصبة. وتكاد الصراعات تهشّم رقعة الشطرنج كلّها، من كاليدونيا الجديدة في جنوب المحيط الهادئ إلى جزر بحر الصين الجنوبي، مروراً بإيسيكيبو في أميركا الجنوبية، وساحل أفريقيا وقرنها، والشرق الأوسط، والقوقاز، وأعالي البحار وأدناها.
يعرّض هذا الصراع الكبير دول البرّ الأوروبي لخسارة بعض من حدائق نفوذها، وازدياد موجات الهجرة إليها، ورزوح اقتصاداتها تحت زيادة معدلات البطالة وارتفاع المديونية العامة إلى مستويات قياسية، ومكافحة شركاتها الكبرى للحفاظ على حصصها السوقية، وصعود الأحزاب الشعبوية المشكّكة في جدوى الاتحاد الأوروبي والعلاقة الأطلسية.
وكما في القارة العجوز، كذلك في بلاد العم سام. يهدّد العم ترامب التكافل الأطلسي مبشّراً بالعودة إلى "مبدأ مونرو"، أو العزلة الأميركية عن الاهتمام بشؤون العالم، خصوصاً شؤون أوروبا، فيما تعطي الإدارة الحالية الأولوية اقتصادياً لدعم القطاعات الإنتاجية المحلّيّة من دون إعارة اي انتباه لتأثير ذلك على الشريك الأطلسي، وتشيح بنظرها عمّا يتعرض له هذا الشريك في أكثر من مكان في العالم.
لعلّ هذا العام يكون مصيرياً، ابتداءً بالانتخابات الأوروبية وانتهاءً بالانتخابات الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وعليها تتوقف معرفة اتجاه الريح في أشكال التعاون الأطلسي وأهدافه.
ختاماً، لا تخصّ فاعلية المؤسسات الإطارية الأميركية - الأوروبية وتوجّهاتها العامة التي نبتت بذورها في 6 حزيران (يونيو) 1944 شعوبها فحسب، بل توثّر في الأمن العالمي، ومستقبل الديمقراطية الليبرالية، والتغيّر المناخي، والأطر الناظمة للذكاء الاصطناعي، إضافة إلى النموذج الثقافي الليبرالي.
وعليه، أيّاً تكن نتائج الانتخابات، فالأكيد أن الانقسامات الداخلية في القارتين عميقة، والتوترات الجيوسياسية باتت أشد خطراً، ما يستدعي انتهاج نخبها مقاربات خلّاقة وبراغماتية على الصعيد الدولي، وتنفيذ إصلاحات داهمة في مؤسسات الحكم لجعلها أكثر تضمينية وفاعلية على الصعيد المحلّي.
من دون ذلك، طريق مئوية "نموذج النورماندي" مزروعة بألف شوكة وشوكة!
*باحث سياسي