كانت الساعة الرابعة من فجر 5 حزيران (يونيو) 1944. القيادة العسكريّة العليا لقوات الحلفاء مجتمعة لتدرس إطلاق عمليّة مفصليّة في الحرب العالميّة الثانية. تقرّر سابقاً أن يكون ذلك اليوم هو الموعد المنتظر، قبل أن يعاند الطقس المهاجِمين. لكنّ المستشار في الأحوال الجوّيّة جيمس ستاغ حمل أنباء سارّة للمجتمعين: فرصُ تحسّن الطقس في اليوم التالي مرتفعة.
"حسناً، سننطلق"، أجاب قائد العمليّة الجنرال دوايت أيزنهاور. في اليوم التالي، ستنطلق الولايات المتحدة لتصنع التاريخ.
يصادف السادس من حزيران (يونيو) 2024 الذكرى الثمانين لإنزال النورماندي الذي مثّل بداية النهاية للنازيّة في ألمانيا. يتّفق المؤرّخون إلى حدّ كبير على أنّ عمليّة إنزال النورماندي المعروفة باسم "عمليّة السيّد الأعلى" (Operation Overlord) هي أكبر هجوم عسكريّ مُركّب عبر التاريخ. يُعرف يوم انطلاق العمليّة بـ "يوم دي" (D-Day).
منذ تخلّي الولايات المتحدة عن عزلتها وقرارها دخول الحرب العالميّة الثانية بعد هجوم "بيرل هاربر" في كانون الأول (ديسمبر) 1941، بحث الأميركيّون في كيفيّة تحرير أوروبا الغربيّة من الاحتلال النازيّ. لهذا السبب، استغرق الإعداد لإنزال النورماندي نحو عامين.
مسار العمليّة
في كانون الثاني (يناير) 1944، عيّن الرئيس الأميركيّ فرانكلين روزفلت الجنرال دوايت أيزنهاور (سيصبح لاحقاً رئيساً للولايات المتحدة) القائد الأعلى لقوات الحلفاء من أجل قيادة "عمليّة السيّد الأعلى" والبدء بتحرير فرنسا. في الأشهر اللاحقة، نفّذ الحلفاء "عمليّة الحارس الشخصيّ" لتضليل القوّات النازيّة. أعطت العمليّة، من بين جملة خطوات، انطباعاً مضلِّلاً لكن "منطقيّاً" بأنّ الإنزال سيتمّ في منطقة پا دو كاليه الفرنسيّة لأنّها الأقرب إلى الشواطئ البريطانيّة بالمقارنة مع النورماندي. فالأولى تبعد نحو 32 كيلومتراً عن بريطانيا، بينما تبعد الثانية ما لا يقلّ عن 160 كيلومتراً. علاوة على ذلك، كانت پا دو كاليه أقرب إلى ألمانيا من النورماندي، ممّا سهّل أكثر عمليّة الخداع.
في المقابل، أوكل الزعيم النازيّ أدولف هتلر الجنرال إرفين رومل استكمال بناء الدفاعات في شمال القارّة الأوروبّيّة بين إسبانيا والنرويج. بدأ ذلك في أواخر سنة 1943 حيث نشر الجيش النازيّ، ضمن ما عُرف بـ "الجدار الأطلسيّ"، خنادق وألغاماً وعوائق برّيّة ومائيّة لعرقلة المهاجمين. ساورت فكرة الهجوم عبر النورماندي ذهن رومل في البداية لكنّه تخلّى عنها لاحقاً بدفع من هتلر. تمّ استبعاد الفكرة خصوصاً أنّه لم يكن هناك ميناء في النورماندي كما لأنّ الأميركيّين أنشأوا معسكرات تدريب وجيوشاً تمويهيّة بالقرب منها. في نهاية المطاف، تمّ تحصين النورماندي بجهد من رومل نفسه، لكن ليس بمقدار التحصينات في پا دو كاليه.
(من مشاهد الإنزال - أب)
في السادس من حزيران، انطلق الهجوم. أنزل الأميركيّون والكنديّون والبريطانيّون أكثر من 150 ألف جنديّ في خمس نقاط من المحور مع تكبّد خسائر قليلة نسبيّاً بلغت نحو 10 آلاف بين قتيل وجريح. حقّقت قوات الحلفاء النجاح في عمليّة الإنزال خلال 24 إلى 36 ساعة. وفي 7 حزيران وصل أيزنهاور إلى النورماندي للإشراف على العمليّة. وكان للهجوم البرمائيّ اسم آخر من ضمن العمليّة الأوسع وهو "عمليّة نبتون" التي خضعت لقيادة البحريّة الملكيّة.
لم يكن تقدّم الحلفاء سريعاً، لكنّه كان ثابتاً. بعد نحو أسبوع بدأوا بربط هذه النقاط واستقبال مئات الآلاف من الجنود العابرين للقناة الإنكليزيّة إضافة إلى العتاد العسكريّ والإمدادات اللازمة. في الأسابيع الستة التالية، أصبح عددهم نحو 1.5 مليون جنديّ. في 25 آب (أغسطس) تمّ تحرير باريس، بينما كان الحلفاء يتقدّمون في جنوب فرنسا. ما سهّل المهمّة نسبيّاً على الحلفاء هو أنّهم قطعوا الإمدادات النازيّة عن النورماندي وإمكانيّة شنّ هجوم مضادّ بعد الاستيلاء على قنال مدينة كانْ التي كانت تقع عند تقاطع استراتيجيّ في عمق المقاطعة.
كما كان الأميركيّون، بمساعدة من العلماء البريطانيّين، قد طوّروا قبل أشهر قليلة الرادارات وأدخلوها في أسرابهم الجوّيّة الأمر الذي مكّنهم من قصف أهداف نازيّة حيويّة وخصوصاً القوّة الجوّيّة للجيش النازيّ، بالرغم من رداءة الطقس. وساعدت القرارات الخاطئة لهتلر مثل رفض مقترحات جنرالاته بالتخلي عن الأراضي لمصلحة رفد الخطوط الأماميّة المتهالكة بالمزيد من القوّات، في تحسين فرص الحلفاء أيضاً.
ستالين المُصرّ... وتشرشل المتردّد
يجادل بعض المؤرّخين، مثل البروفسور الفخريّ في جامعة كالغاري الكنديّة جون فيريس، دفاعاً عن فكرة أنّ إنزال النورماندي لم يغيّر مسار الحرب وأنّ السوفيات كانوا قادرين على الفوز من دون "عمليّة السيّد الأعلى". لكنّ السؤال هو بأيّ كلفة. كان الزعيم السوفياتيّ جوزف ستالين يعرف أنّ أيّ انتصار على النازيّة من دون تدخّل برّيّ من الغرب كان سيأتي بأكلاف باهظة. لهذا السبب، ألحّ كثيراً على الأميركيّين والبريطانيّين، بدءاً من أيار (مايو) 1942، كي يشنّوا هجوماً برّيّاً. المفارقة تكمن في أنّ رئيس الوزراء البريطانيّ ونستون تشرشل كان متردّداً.
يشير البروفسور الفخريّ في جامعة إكستر البريطانيّة ريتشارد أوفري إلى أنّ أسباباً عدّة دفعت تشرشل إلى الارتياب من العمليّة، مثل صعوبتها وطيف فشله السابق في قيادة معركة غاليبولي سنة 1915. لذلك، حاول تشرشل إقناع ستالين بأنّ القصف الجوّيّ الملكيّ على ألمانيا هو الجبهة الثانية التي أرادها ستالين. بحسب أوفري، كان تشرشل محقّاً في تردّده تجاه العمليّة لأنّ الهجوم البرمائيّ صعبٌ فعلاً، لكنّه أخطأ على المستوى الاستراتيجيّ لأنّ فتح جبهة ثانية كان "ضرورة سياسيّة" لكسب ثقة الأوروبّيّين الغربيّين ومنع الشيوعيّين من التقدّم غرباً.
لهذا السبب، وإن كان فتح جبهة ثانية قد حقّق أمنية ستالين في تخفيف الضغط عن جيشه، فقد سمح للأميركيّين في نهاية المطاف بترك موطئ قدم لهم في غرب القارّة العجوز على حساب موسكو. تكفي العودة إلى محاولات السوفيات العقيمة التي دامت 11 شهراً من أجل عزل برلين الغربيّة بدءاً من حزيران 1948 لمعرفة حجم خسارة موسكو البعيدة المدى بعد إصرارها على فتح جبهة ثانية. من دون قوّات أميركيّة في غرب أوروبا، لما تمكّنت واشنطن، ومعها باريس ولندن، من إنقاذ برلين عبر الجسر الجوّيّ. يمكن القول بشكل معقول إنّ إنزال النورماندي ساهم في تمكين الولايات المتحدة من كسب الحرب الباردة في نهاية المطاف. لكنّ إنزال النورماندي لم يمثّل مجرّد تأكيد لهزيمة النازيّة كمعطى عالميّ جديد وحسب.
لا عودة عنه
نجح الأميركيّون (والجنرالات البريطانيّون) في دفع تشرشل إلى القبول بفكرة إنزال النورماندي ومنحوه بعض التطمينات على ما يبدو. كانت القيادة الأميركيّة للإنزال نوعاً من الضمانة المعنويّة لتشرشل بأنّه في حال فشل الهجوم لن يتحمّل رئيس الوزراء البريطانيّ لوم الأميركيّين، إلى جانب أنّه ضَمَن في المقابل، استمرار الهيمنة البريطانيّة على البحر الأبيض المتوسّط. لكنّ هذه الإجراءات كانت ذات طبيعة موقّتة.
(فرقاطة أميركية تشارك في إنزال النورماندي - أب)
منذ نجاح العمليّة، بزغ فجر الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة، وهو مصطلح أبصر النور سنة 1944، كما رأى أستاذ القانون في جامعة كولومبيا ومؤلّف كتاب "نور المعركة: أيزنهاور، دي داي، وولادة القوة الأميركيّة العظمى"، ميشال پارادي: "خلال أسابيع من يوم الإنزال، وجد البريطانيّون أنفسهم فجأة وبشكل لا رجعة فيه خاضعين لقرار مستعمرتِهم السابقة".