النهار

ماكرون في ذكرى الإنزال... تصحيحٌ للتّاريخ؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
شيءٌ من "ردّ الاعتبار" لديغول
ماكرون في ذكرى الإنزال... تصحيحٌ للتّاريخ؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ ف ب)
A+   A-

لم يحمل إنزال النورماندي الكثير من الذكريات الجميلة للرئيس الأسبق شارل ديغول. مثّل الإنزال بداية التحرير من الاحتلال النازيّ لكن بالمقابل ثمّة ما نغّص الفرحة الكبيرة. سنة 1964، بُثّت مشاهد الاحتفال بهذه الذكرى على التلفاز للمرّة الأولى لكنّ ديغول لم يكن حاضراً.

 

يقول المؤرّخ دنيس بيشانسكي في حديث لشبكة "فرانس-24" إنّ الرئيس الأسبق رفض إحياء الذكرى بسبب عدم تشاور الحلفاء معه في مناقشة أو تنفيذ خطّة يوم الإنزال. وأشار الخبير في التاريخ العسكريّ المعاصر تريستان لوكوك إلى أنّ ديغول رفض الاعتراف حتى بوحدة الكوماندوز الفرنسيّة الوحيدة التي شاركت في يوم الإنزال.

 

ازدراء... بين حليفين

لديغول سجلّ حافل في الصدام العلنيّ مع الولايات المتحدة بسبب التعامل معه خلال الحرب العالميّة الثانية. هو استُبعِد من مؤتمري يالطا وبوتسدام في شتاء وصيف 1945 عند التباحث في مسار المعارك ونظام ما بعد الحرب. لم يخفِ ديغول استياءه من هذه الخطوة قائلاً إنّ الرئيس الأميركيّ فرانكلين روزفلت كان يكنّ له خصومة شخصيّة. كتب راوول أغليون، أحد موفدي ديغول إلى واشنطن في بداية الأربعينات، أنّ روزفلت وجد في ديغول حليفاً أوتوقراطيّاً وغير مهمّ، حتى أنّه راهن على بروز قائد آخر للمقاومة الفرنسيّة.

 
 

لكنّ مؤرّخاً فرنسيّاً آخر، فرانسوا كيرسودي، يرى أنّ ديغول كان في صراع مع الجميع تقريباً: مع فيشي والنازيّين، لكن أيضاً مع القوات البريطانيّة ورئيس الوزراء ونستون تشرشل ووزارة الخارجيّة الأميركيّة والرئيس الأميركيّ. بينما كتب نجل الرئيس الأميركيّ الأسبق الجنرال إليوت روزفلت أنّ والده أصيب بصدمة من سرعة انهيار الفرنسيّين أمام النازيّين وأنّه لم يثق بحيويّة الدولة الفرنسيّ إلى جانب وصفه ديغول بالـ "بونابرتيّ الجديد".

 

وريثه

يقول البعض إنّ الرئيس الفرنسيّ الحاليّ إيمانويل ماكرون يتمتّع بنزعة استقلاليّة شبيهة بنزعة ديغول. وقد يكون لماكرون أسباب كثر من سلفه للدفع باتّجاه الاستقلاليّة الفرنسيّة وأهمّها عدم موثوقيّة الولايات المتحدة في الحقبة الحاليّة. بدأ الأمر مع الرئيس السابق دونالد ترامب واستمرّ مع خلفه جو بايدن، بالتحديد في قضيّتي الانسحاب من أفغانستان بدون التشاور مع الحلفاء وبيع واشنطن غواصاتها إلى أستراليا الأمر الذي أدّى إلى إلغاء صفقة غوّاصات فرنسيّة سابقة. ويمكن أن تجد أوروبا نفسها في مواجهة رئاسة ثانية لترامب بعد أشهر قليلة.

 
 
 

(ماكرون يحيّي مقاتلين بريطانيين سابقين في الحرب العالمية الثانية - أ ف ب) 

 

حاول ماكرون الدفع نحو الاستقلاليّة الأوروبّيّة عن الولايات المتحدة بطريقة أثارت ريبة الأوروبّيّين. تبيّن ذلك قبل وبعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا إذ خاض نقاشات مطوّلة بلا جدوى مع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين وطالب بضرورة أن تكون روسيا جزءاً من هندسة أمنيّة جديدة لأوروبا وبألّا تتعرّض موسكو لـ "الإذلال" بعد الحرب. حتى في قضيّة تايوان، طالب ماكرون الأوروبّيّين بألّا يُجرّوا إلى صراع لا يعنيهم بشكل مباشر.

 

لكن في ما يخصّ النظرة إلى الأمن الأوروبّيّ، بات ماكرون اليوم مختلفاً كثيراً عن ماكرون الأمس. أعلن في شباط (فبراير) أنّه يجب عدم استبعاد إرسال قوّات برّيّة إلى أوكرانيا لمنع تدهور الأمور وكرّر الفكرة نفسها في وقت لاحق. وبالكاد بدأت تهدأ ردود الأفعال على كلامه، قاد الرئيس الفرنسيّ حملة ضغط من أجل السماح لأوكرانيا باستهداف الجنود الروس المتمركزين خلف الحدود مع أوكرانيا لمنعهم من التقدّم.

 

صورة الأمس... معكوسة

قد يقف الرئيس الفرنسيّ خلف التغيير المفاجئ في موقف إدارة بايدن تجاه منح كييف الضوء الأخضر لاستهداف الجيش الروسيّ في بيلغورود وربّما كيرسك الروسيّتين. بالحدّ الأدنى، هو مساهم كبير في هذا الانعطاف. حتى المستشار الألمانيّ أولاف شولتس الأكثر تردّداً بين الحلفاء الغربيّين في اتّخاذ خطوات تراها موسكو تصعيديّة قبِل بهذه الفكرة ولو بطريقة مبهمة حين كان يستضيف ماكرون في برلين. يضاف إلى كلّ ذلك أنّ مجموعة الدول الأوروبّيّة التي تقبل بإرسال قوّات إلى أوكرانيا في حال انهيار الجبهة تتزايد بشكل أو بآخر.

 
 

مع الأخذ بالاعتبار الفرق بين الأزمنة والظروف واللاعبين، يمكن ملاحظة أنّه بينما كانت الولايات المتحدة تقود العمليّة العسكريّة لحماية أوروبا الغربيّة في الحرب العالميّة الثانية وما بعدها، تبدو فرنسا هي التي تتولّى دفّة القيادة اليوم لجهة تحديد الخطوط الأمنيّة العريضة للقارّة. تدرك دول الجناح الشرقيّ لحلف شمال الأطلسيّ (ناتو) أنّ قوّة الولايات المتّحدة هي الضامن الأساسيّ للأمن الأوروبّيّ. مع ذلك، لا يعني هذا الأمر أنّها لا تفضّل الخطاب الفرنسيّ الأكثر جرأة.

 

مفاجأة ماكرونيّة في أوكرانيا؟

على عكس الاحتفالات الفرنسيّة التقليديّة الخجولة بيوم الإنزال، تقيم فرنسا الماكرونيّة احتفالاً صاخباً مع مئات الفاعليّات على طول شاطئ النورماندي وبالأخصّ في منطقة "أوماها بيتش" التي أنزل الأميركيّون قوّاتهم فيها وكانت الأصعب من بين نقاط الإنزال الخمس. وسيستقبل ماكرون الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي الجمعة للتباحث في مسائل الحرب ومستقبل أوكرانيا ومن المتوقّع أن يعلّق الرئيس الفرنسيّ على ما إذا كان ينوي إرسال مستشارين إلى البلاد.

 

يعتقد الباحث في مؤسّسة "أولويّات الدفاع" الأميركيّة أندرو داي أنّ بإمكان ماكرون وقف الحرب عبر اقتراح منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو بما يريح بوتين، والتعويض على كييف من خلال ضمّها إلى الاتّحاد الأوروبّيّ. ويرى داي أنّه بفضل ماكرون، تتزايد قوّة الاتّحاد لضمان أمن أوكرانيا كما ستجعل عضويتها الجديدة الدول الأوروبّيّة أكثر استعداداً للمزيد من الإنفاق الدفاعيّ وهو ما سيريح واشنطن في نهاية المطاف.

 
 
 

(ماكرون سيستقبل بايدن في 8 حزيران - أ ف ب)

 

سيصبّ هذا المقترح في مصلحة ماكرون. كان انضمام السويد وفنلندا مؤخّراً إلى الناتو دليلاً على أنّ الأخير يمثّل ضمانة أقوى للأمن الأوروبّيّ من ضمانة الاتّحاد الذي تتضمّن معاهدته التأسيسيّة مادّة للدفاع الجماعيّ شبيهة بالمادّة الخامسة من المعاهدة التأسيسيّة للحلف الأطلسيّ. إنّ انضمام أوكرانيا للاتّحاد لا للنّاتو قد يغيّر كثيراً هذه الصورة بخاصّة أنّ أوروبا ستستقبل في صفوفها دولة صاحبة جيش متمرّس للغاية في القتال، وهو "الأفضل" على مستوى الاتحاد الأوروبّيّ بحسب توصيف الجنرال الفرنسيّ ميشال ياكوفليف السنة الماضية.

 

قد لا تتحمّس أوكرانيا لهذا العرض، والأمر نفسه ينطبق على روسيا. بصرف النظر عن ذلك، يبدو التأثير الفرنسيّ اليوم على مستوى القارّة الأوروبّيّة أقوى من أيّ وقت مضى. بمعنى من المعاني، "يصحّح" ماكرون اليوم "المظالم" التي ارتكبها الأميركيّون مع ديغول بحسب وجهة نظر الفرنسيّين. ومن خلال المناسبة نفسها التي أثارت ريبَتَه.

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium