"تسونامي"، "زلزال"، "صاعقة"... استحضرت وسائل الإعلام الفرنسيّة كلّ قوى الطبيعة تقريباً لدى توصيفها نتائج الانتخابات الأوروبّيّة وقرار الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون حلّ الجمعيّة الوطنيّة والدعوة إلى انتخابات مبكرة في 30 حزيران (يونيو) و7 تموز (يوليو).
جاء قرار ماكرون الذي وُصف بـ"المقامرة" بعد الخسارة الكبيرة التي مني بها حزبه "النهضة" في الانتخابات البرلمانيّة الأوروبّيّة. حصد "التجمّع الوطني" المحسوب على اليمين المتطرّف نحو 32 في المئة من الأصوات، بينما لم يحصل "النهضة" إلا على ما يزيد بقليل عن 15 في المئة منها. كان أداء اليمين المتطرّف في فرنسا من بين الأقوى على الساحة الأوروبّيّة. تضاف إلى ذلك أرقام حزب آخر هو على يمين "التجمّع الوطنيّ" نفسه: حزب "الاسترداد" الذي أسّسه الصحافيّ إريك زيمور. حصل الحزب على نحو 5 إلى 6 في المئة من الأصوات.
تعدّ مكاسب "التجمّع الوطنيّ" قياسيّة. قبل الانتخابات الأخيرة، حقّق الحزب نتيجته الفضلى في الاستحقاق الأوروبي سنة 2014 مع نحو 24 في المئة من الأصوات، حين كان لا يزال تحت اسمه القديم، "الجبهة الوطنيّة".
"اليوم الأوّل في حقبة ما بعد ماكرون"
خسر ماكرون غالبيّته التشريعيّة في حزيران (يونيو) 2022، لكنّه ظلّ محتفظاً بالأغلبيّة النسبيّة في البرلمان. اليوم، هو يخاطر بمنح "التجمّع الوطنيّ" فرصة التحوّل إلى الحزب الأكبر، هذا إن لم يحصل على الأغلبيّة المطلقة، كما أظهر استطلاعٌ في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. حاول الرئيس الفرنسيّ أن يظهر رباطة جأش في الدعوة إلى انتخابات مبكرة.
كان رئيس "التجمّع الوطنيّ" جوردان بارديلا هو من دعا في البداية إلى إجراء انتخابات تشريعيّة فرنسيّة جديدة تعكس نتائج الانتخابات الأوروبّيّة. وقال بعد صدور استطلاعات الخروج إنّ النتائج الانتخابيّة تمثّل "اليوم الأوّل من حقبة ما بعد ماكرون". لم يتردّد الرئيس الفرنسيّ في منح خصمه الشاب (28) ما يريد، قائلاً إنّ خطوته تعبير عن "فعل ثقة" بالناخبين الفرنسيّين. لكن ألم يخاطر ماكرون في الخلط بين "الثقة" و"الانتحار السياسيّ"؟
(بارديلا - أب)
قال مصدر في الإليزيه مقرّب من ماكرون لشبكة "سي أن أن" إنّ الانتخابات بيّنت وجود "غالبيّة جمهوريّة" مؤلّفة من جميع الذين رفضوا التصويت لصالح اليمين المتطرّف. وأضاف: "يجب ألّا نكون خائفين أبداً من الشعب الفرنسيّ. أقنِعوا أقنِعوا أقنِعوا – هذه هي الروحيّة التي ستتّخذها الغالبيّة الجمهوريّة".
عودة إلى قوى الطبيعة... "تسونامي"
لا يُعرف عن ماكرون الافتقار إلى مهارات الخطابة والتواصل. مع ذلك، ثمّة شكّ معقول في إمكانيّة نجاحه بإقناع الناخبين الفرنسيّين بتغيير رأيهم خلال بضعة أسابيع، إن كان قد فشل في تحقيق ذلك طوال أشهر. ويبدو أنّ محيطه يدرك هذا الاحتمال.
مدير تحرير صحيفة "أويست-فرانس" ستيفان فرناي كتب أنّ المقرّبين من الرئيس كانوا ينتظرون منه ألّا يأتي بحركة، على قاعدة أنّ هذا النوع من الانتخابات لم يترك في السابق تأثيراً على الصعيد الوطنيّ. وأضاف أنّ محيط ماكرون رأى في قراره مخاطرة بتحقيق اليمين المتطرّف "تسونامي" في الانتخابات المقبلة.
رهانٌ آخر
المشكلة معقّدة بالتّحديد لأنّ ماكرون لا يرغب في أن يذكره التاريخ كرئيس أدخل "التجمّع الوطنيّ" إلى رئاسة مجلس الوزراء. لكن إلى جانب رهانه على رفض الغالبيّة الفرنسيّة لحزب بارديلا ومارين لوبن، يبدو أنّ ثمّة عيناً أخرى على هدف موازٍ. يريد ماكرون بَعثرة اليسار ودفعه مجدّداً إلى الاصطفاف خلف الحزب الاشتراكيّ الأكثر اعتدالاً بدلاً من حزب "فرنسا الأبيّة" بقيادة جان لوك ميلانشون، بحسب تحليل كريستال برتران في صحيفة "لا ديپَش".
المرشّح البارز للحزب الاشتراكي رافاييل غلوكسمان. ( أب)
يبدو هذا الهدف سهل التحقيق نسبيّاً. نتائج "فرنسا الأبيّة" كانت بالغة السوء في الانتخابات الأوروبّيّة. حلّ الحزب في المرتبة الرابعة مع نحو 9 في المئة من الأصوات. للمقارنة، حصد جان لوك ميلانشون 22 في المئة من الأصوات خلال المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة الأخيرة.
بالمقابل، حصل الحزب الاشتراكيّ بقيادة رافاييل غلوكسمان على ما يقرب من 14 في المئة من الأصوات، وهو أداء كبير بالنسبة إلى حزب سلك مساراً تنازليّاً في السنوات السابقة. كسبت مرشّحة الحزب الرئاسيّة سنة 2022 آن إيدالغو 2 في المئة فقط من تأييد الناخبين. مع ذلك، حتى في هذا الرهان، ولّد ماكرون لنفسه مطبّاً مجّانيّاً. بالكاد تنعّم غلوكسمان بطعم الفوز حتى صدمه قرار الرئيس الفرنسيّ. قال في تعبير عن استياء واضح: "لقد امتثل إيمانويل ماكرون لمطالب بارديلا، ولم يجبره أيّ شيء على ذلك (...) إنّها لعبة خطيرة جدّاً بالنسبة إلى الديموقراطيّة والمؤسّسات".
السبب الأهمّ؟
ربّما أتى التحليل الأقرب إلى حسابات ماكرون في صحيفة "لا كروا" الفرنسيّة. كتب غوتييه ڨايان أنّ الرئيس أراد توجيه "صعقة كهربائيّة" للناخبين كي يظهروا للعالم أنّهم غير مستعدّين لوضع أنفسهم تحت حكم اليمين المتطرّف. لكن من ناحية ثانية قد تكون الأهمّ، أراد ماكرون إجبار "التجمّع الوطنيّ" على الخروج من منطقة الراحة التي توفّرها المعارضة والتوجّه إلى المشاركة في الحكم. بذلك، يفقد الحزب شعبيّته على أبواب الانتخابات الرئاسيّة سنة 2027، ممّا يتيح لمرشّح "النهضة" المقبل، بما أنّ ماكرون لا يستطيع الترشّح لولاية ثالثة، فرصاً أفضل للفوز. وكان لمراسلة "بوليتيكو" في باريس كليا كولكوت تحليلٌ مشابه أيضاً.
بحسب ڨايان، اتّخذ ماكرون "مخاطرة قصوى". فهو يدفع بلاده "إلى المجهول". لكن بحسب ڨرناي، مدير تحرير صحيفة "أويست-فرانس"، يعيد ماكرون فرنسا إلى الديموقراطيّة... و"غيابات اليقين فيها".
في الحالة الفرنسيّة، بين غياب اليقين والمجهول خيط رفيع.