دائرة صغيرة جداً من المطلعين. ثمانية أشخاص فقط، بينهم ثلاثة مستشارين في الإليزيه ووزيران. ثمانية كانوا على علم بتوجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حل الجمعية الوطنية. السرّية التامة مطلوبة. "لكي يستعيد الرئيس مساحة المناورة التي كانت متاحة له، لم يكن هناك خيار سوى التوجه إلى الشعب"، برأي أحد مستشاريه، لكن هل الخيار صائب؟
"النهار العربي" سأل رأي الباحث والصحافي الفرنسي المتخصص بالشؤون الفرنسية والدولية بيار-لويس ريمون من باريس، والخبير في الشؤون الأوروبية محمد رجائي بركات من بروكسل.
إنقاذ ساحر مبدئ؟
كانت الساعة تقترب من الثامنة مساءً في قصر الإليزيه ليلة الانتصار التاريخي لليمين المتطرف. قدّم "السيد ماكرون" رؤيته وتوجهه إلى حل الجمعية الوطنية، رغم نصح العديد من الشخصيات ذات الثقل في الأغلبية بالمواجهة وتحمل النتائج بمسؤولية، بمن فيهم وزير الداخلية جيرالد دارمانان، ورئيس حزب MoDem "موديم" فرانسوا بايرو، بالإضافة إلى العديد من مستشاري قصر الإليزيه، على ما تنقل "لوموند" عن مقرب من الرئيس الفرنسي.
ساحر متدرّب؟ لاعب بوكر؟ مُشعل حرائق؟ تعابير استُخدمت على شاشات التلفزة الفرنسية تعليقاً على حل الجمعية الوطنية. أُرفقت التعابير هذه مع أسئلة بالعريض في الصحافة الفرنسية: "من خلال اللعب بالنار، قد ينتهي الأمر برئيس الدولة إلى إحراق نفسه وجر البلاد بأكملها معه"، لكن هناك شيئاً واحداً مؤكداً: "كان السيد ماكرون يبحث عن طرق لإنقاذ نفسه في ليلة هزيمته المهينة".
استخدم ماكرون كل الوسائل المتاحة له في حملته وفَشِل، برأي "لو موند". احتفالات ذكرى يوم النصر، الحرب في أوكرانيا، تهويل القضايا المطروحة في الانتخابات، وما إلى ذلك، إلا أنه لم يتمكن من وقف انزلاق القائمة التي تتزعمها فاليري هاير.
رهان خطِر ومُعطى جديد
الرئيس الفرنسي قام برهان سياسي برأي بيار-لويس ريمون. هناك من يسمي خطوته مجازفة، و"لكنني لا أعتقد أنه أحرق نفسه وأحرق معه البلاد"، كما يقول لـ"النهار العربي". بطبيعة الحال، يتابع، "هذه العملية التي يقوم بها ماكرون ليست خالية من المخاطر، لكن في الوقت نفسه لو عدنا إلى تاريخ الجمهورية الفرنسية نتذكر بأن الجنرال ديغول خطا الخطوة نفسها عندما قام باستفتاء سأل فيه الفرنسيين ما إذا كان موافقاً على سياسة الجمهورية الفرنسية وسياسات الرئيس ديغول نفسه بعد أحداث 1968".
الباحث والصحافي الفرنسي يتحدث لـ"النهار العربي" عن معطى جديد الآن، وهو أن مثل هذه المساءلة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي تأتي بعد انتخابات أوروبية وليس بعد انتخابات وطنية فرنسية، وبالتالي فهو يُحوّل هذه الانتخابات التي كان يُفترض أن تبقى أوروبية إلى انتخابات وطنية فرنسية محلية مبكّراً، وفي الوقت نفسه يراهن على أن الرأي العام سيمتص نوعاً ما هذا الغضب الانفعالي الذي جعله يتوجه إلى الأحزاب المتطرفة، وتحديداً إلى التجمع الوطني.
يقول بيار-لويس ريمون إن الرئيس الفرنسي يُراهن على أن التوجه ذاته لن يكون قائماً على أساس أن الانتخابات التشريعية تكون انتخابات وطنية، وبالتالي تُلزم الشعب أكثر بكثير مما تلزمه الانتخابات الأوروبية. "أنا أعتقد أن هذا الرهان ليس خالياً من المخاطر، ولكنه رهان يُفهم ديموقراطياً، يفهم من زاوية بنود الجمهورية الخامسة ويُفهم أيضاً من باب التعريف الأولي بالديموقراطية وهو العودة إلى الشعب".
رأي أوروبي
برأي محمد رجائي بركات، تفاجأ الرئيس الفرنسي بالنتائج عندما حصل حزب اليمين المتطرف الفرنسي على نسبة تزيد على الثلاثين في المئة من أصوات الناخبين، وهذا يعني أن ثلاثين في المئة من الناخبين سيصوتون لهذا الحزب في الانتخابات المقبلة إذا جرت على المستوى الوطني، "وهكذا فقدت فرنسا أهميتها داخل البرلمان الأوروبي وداخل دول الاتحاد الأوروبي، وأيضاً لأن حزب ماكرون ومجموعته السياسية أيضاً فقدا عدداً من الناخبين المنتمين إليهما"، يقول.
يعتقد الخبير في الشؤون الأوروبية أن الرئيس الفرنسي تسرّع وأخطأ بحل الجمعية الوطنية، لأن إعادة إجراء انتخابات في فرنسا على مستوى الجمعية الوطنية ستؤدي إلى ازدياد عدد أعضاء اليمين المتطرف في الجمعية الوطنية الفرنسية، وهذا سيؤدي أيضاً إلى صعوبة استمرار حكمه لفرنسا.
أكثر خطورة
إذا نجح اليمين المتطرف في الانتخابات المقبلة فهل سيكون بإمكان الرئيس الفرنسي التعايش مع حكومة يمينية متطرفة؟ يجيب بركات: "الدلائل تشير إلى أن النتائج قد تكون أكثر خطورة وأن اليمين المتطرف سيحصل على أصوات أكثر في الانتخابات المقبلة، لا سيما أن اليسار، كالحزب الاشتراكي الفرنسي، فَقَدَ الكثير من أعضائه وأيضاً الخضر تراجعوا في فرنسا، وفي حال وجود خلافات بين اليسار الفرنسي وعدم توصله إلى تشكيل جبهة واحدة لمواجهة خطر اليمين المتطرف، فالرئيس الفرنسي سيفقد سلطته على الأحزاب السياسية والائتلاف الذي يؤيده الآن، ولا وقت كافياً للرئيس الفرنسي ومؤيديه لتغيير الأوضاع وكسب تأييد الفرنسيين".
هل يستعيد ماكرون زمام المبادرة؟
لا يعتقد بركات أن "حل ماكرون الجمعية الوطنية سيعيد للرئيس زمام المبادرة كما كان يهدف من القيام بها، بالتالي أعتقد أن خسارته خلال الانتخابات المقبلة ستكون كبيرة؛ من ناحية سيفقد العديد من المؤيدين داخل الجمعية الوطنية وسيصبح استمراره في الحكم كرئيس للجمهورية الفرنسية مع حكومة لا تسير في الاتجاه السياسي نفسه ولديها أوليات تختلف عن أولوياته، وهو يريد لفرنسا أن تقوم بدور قيادي في الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع ألمانيا، ولكن فقدان عدد كبير من الأعضاء في البرلمان الأوروبي وصعود اليمين المتطرف في فرنسا وألمانيا قلل من أهمية فرنسا وسلطتها داخل الاتحاد الأوروبي كتحالف ثنائي يُدير ويكون المحركَ للاتحاد الأوروبي وسياساته".
مقارنة في غير محلها؟
هل يُكرر ماكرون تجارب سابقة بخطوته الحالية؟ يرد بركات: "لا أعتقد أن الرئيس ماكرون سيكون قادراً على المواجهة كما الرئيس شيراك في السابق وكما فعل فرانسوا ميتران عندما كان يحكم فرنسا، في الوقت نفسه كانت هناك حكومة غير اشتراكية تقود فرنسا وكان هناك تعايش. وضع الرئيس الفرنسي حالياً صعب لأنه فشل في العديد من السياسات، ولأنه فشل في قيادة الاتحاد الأوروبي وإعطاء دور كبير لفرنسا، وفشل في إدارة الأزمات، ومنها الحرب في أوكرانيا، وأيضاً فشل في تبني مواقف وحمل الاتحاد الأوروبي على تبني مواقف تُوقف الإبادة في غزة، لا يمكن بالتالي مقارنة الرئيس الفرنسي الحالي بجاك شيراك الذي كانت سياساته واضحة ومعتدلة وأيضاً ليست لدى ماكرون القدرة على المواجهة كما كان لشيراك وميتران".
والآن إلى أين؟
برأي محمد رجائي بركات، تذهب فرنسا إلى طريق مسدود وزيادة في المشكلات الاقتصادية (...)، أما أوروبا فتتجه نحو صراعات ونزاعات داخلية قد لا تؤدي إلى محاولة بعض الدول الخروج من الاتحاد الأوروبي؛ فمعروف أن اليمين المتطرف في السابق وحتى اليمين المتطرف في فرنسا كان يطالب بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن التجربة المريرة التي تعانيها بريطانيا، تجعل المواطنين الأوروبيين يمتنعون عن المطالبة بعدم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.