باريس – شارل سابا
كان السابع من أيار (مايو) 2017 "يوماً مجيداً" للمرشّح الشاب الرابح في الانتخابات الرئاسية الفرنسية إيمانويل ماكرون، بفوزه الساحق على زعيمة "التجمع الوطني" مارين لوبن، سرّ أبيها جان ماري لوبن، زعيم "الجبهة الوطنية" منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، زمن صعود الاشتراكية، وبدايات "التحرّر الثقافي"، ووصول طلائع المهاجرين.
سرعان ما خطب ماكرون بهذا الفوز ودّ أوروبا. ففي خريف العام نفسه، ومن منبر جامعة السوربون الأعرق، أعلن "مبادرة لأوروبا" التي كان يريدها "سيّدة، موحّدة، وديموقراطية"، محذّراً إيّاها من خذلانه بـ"الانطواء القومي"، لما لذلك من تأثير على "تحدّيات الحاضر، كالدفاع، والأمن، والهجرة، والتنمية، والتغيّر المناخي، والثورة الرقمية، وتنظيم الاقتصاد المعولم"... حتّى انقضى كمال السبعة أعوام، فأنكرته قبل صياح الديك.
التراجع الكبير
ما جرى، أن لائحة "التجمّع الوطني" برئاسة جوردان بارديلا فازت بنحو ثلث الأصوات، متقدّمة بأكثر من 10 نقاط في 5 أعوام، ومتفوّقة على لائحة تحالف أحزاب "النهضة"، و"آفاق" و"الحركة الديموقراطية" الداعم لماكرون بأكثر من ضعف عدد الأصوات.
كذلك، حقّق اليمين الراديكالي الصدارة أيضاً في النمسا وإيطاليا وبولندا وبلجيكا، وتحسّنت أرقامه في أكثرية دول القارة، خصوصاً في ألمانيا، حيث حلّ حزب "البديل لألمانيا" المتطرّف ثانياً بـ 16 في المئة من المقترعين.
عليه، زاد تجمّع أحزاب اليمين الراديكالي في البرلمان الأوروبي ("المحافظون والإصلاحيون" و"الهويّة والديموقراطية") حصّتهما من المقاعد بـ 15، وتجمّع الأحزاب الديموقراطية المسيحية ("حزب الشعب الأوروبي") المحافظ بـ5، في مقابل تراجع تجمّعات الوسط "تجديد أوروبا" والخضر ("الخضر/التحالف الأوروبي الحر") والديموقراطي الاجتماعي ("الاشتراكيون والديموقراطيون") واليسار الراديكالي 26 مقعداً. وكانت حصّة الأسد في هذا التراجع للخضر في ألمانيا، الذين سجّلوا انهياراً بـ 8 مقاعد منذ الانتخابات الأوروبية الأخيرة في عام 2019. ولولا تقدّم أحزاب الخضر واليسار في الدول الاسكندينافية، لكانت الخسارة على المستوى الأوروبي أفدح، مع الإشارة إلى أن المشاركة كانت الأعلى منذ سنوات.
مشتركات أوروبية
الأسباب المشتركة أوروبياً لفوز اليمين الراديكالي كانت حسن استعمال الربط بين الهجرة والواقع الاقتصادي المزري للطبقات الوسطى وما دون، خصوصاً في الريف والمدن الصغيرة، مع الإفادة من البعد الديني والثقافي لأكثرية المهاجرين، والمشاكل الأمنية الناجمة عن ضعف الاندماج. وما زاد الطين بلّة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، نقمة السواد الأعظم من المستهلكين على ارتفاع معدّلات التضخّم إلى مستويات قياسية، وحنق المزارعين من السياسات الزراعية للاتحاد الأوروبي التي أتت على حساب صغار المزارعين، وتعارض سياسة الحياد الكربوني المدفوعة أساساً من تكتل الخضر في الاتحاد مع قاعدة القطاع الصناعي وعمّاله. في مقابل ذلك، قصّر اليسار التقليدي المتمثّل في الأحزاب الديموقراطية الاجتماعية في التعبير عن المطالب الاجتماعية، متحوّلاً في أولوياته إلى مسائل "التحرّر الأخلاقي" حصراً.
ورغم هذه المشتركات الأوروبية العامّة في أسباب هزيمة النخب الكلاسيكية لدول الاتحاد الأوروبي، تميّزت فرنسا بخاصّيات انتخابية، أبرزها فشل التحالف الداعم للرئيس في استخدام المعطى الخارجي في صناديق الاقتراع، إذ كان يأمل صنّاع الحملة الإعلامية في تحشيد كثير من ناخبي الحزبين الاشتراكي و"الديغولي" خلف اللائحة الماكرونية، في مواجهة لوبن وإحراجها بعلاقاتها الروسيّة، بالتوازي مع انتقال باريس إلى الخطوط الأمامية في الصراع مع موسكو.
من الخاصيّات التي أمعنت في التعثّر أيضاً حرب غزة. فقد ولّدت محرّك استقطاب آخر بين لائحة الحزب الاشتراكي من جهّة وميلنشون المدافع عن القضية الفلسطينية والمنتقد الشرس لإسرائيل من جهة أخرى، ما همّش تماماً الجناح اليساري في الماكرونية، في حين كان رافضو "الإسلام السياسي" من أساسه في مكانهم الطبيعي... أي "التجمّع الوطني" بقيادة لوبن.
مفاوضات توحيد شرسة
هذا في الأمس، أما في المقبل من الأيام، فستشهد أروقة البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ مفاوضات شرسة، هدفها الأساس توحيد كتلتي اليمين الراديكالي، لتصبح الكتلة الثانية في البرلمان بعد اليمين المحافظ. وقد مهّدت لوبن الأرضية لذلك بفك التحالف مع حزب "البديل لألمانيا" المنبوذ من تجمّعات البرلمان.
إلّا أن خلاف المواقف بين أطراف اليمين الراديكالي الأوروبي بشأن أوكرانيا يصعّب هذه المفاوضات ويقلّل من فرص نجاحها، ما يدفع جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية وزعيمة حزب "أخوّة إيطاليا"، إلى التغريد خارج رهطها الأساس باتجاه تجمّع "حزب الشعب الأوروبي" المحافظ، وعماده "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" الألماني، محاولة نسج جسر بين "اليمينين" المحافظ والراديكالي، لحفظ أطلسية أوروبا والتشدّد في مواضيع الهجرة والقضايا الاجتماعية في آن.
ومهما تكن حصيلة التحالفات في البرلمان لتكوين الأكثرية، فمستبعدٌ أن يتولّى اليمين الراديكالي أحد المناصب التنفيذية الثلاثة العليا في الاتحاد الأوروبي، أي رئاسة المفوضيّة ومجلس أوروبا والممثلية العليا للسياسة الخارجية. غير أن المؤكّد هو أن السنوات الخمس المقبلة ستشهد تشدّداً في مسألة الهجرة الشرعيّة وغير الشرعيّة إلى أوروبا، فيما سيكون بناء التوافق بشأن السياسات الأوروبية الموحّدة أقل سلاسة، مع إمكان التراجع عن توافقات سابقة كحزم دعم أوكرانيا، وتشديد العقوبات على روسيا، وأخرى متعلّقة بالحياد الكربوني، كوقف بيع المحرّكات الحرارية في عام 2035.
خياران لا ثالث لهما
عودٌ على بدء: يبقى التأثير الأسرع والأكبر على فرنسا، إذ لم يكن وطيس المعركة قد بَرَد ولا غبارها قد انجلى، حتى أعلن الرئيس الفرنسي حلّ الجمعية العمومية، والدعوة إلى انتخابات مبكرة سريعة في خلال ثلاثة أسابيع، وقبل أقل من شهر من افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس.
يرمي ماكرون من وراء ذلك وضع الفرنسيين أمام أحد الخيارين: إعادة تكوين أكثرية واضحة في الجمعية الوطنية في مواجهة "التجمّع الوطني"، أو الخسارة وتسليم "التجمّع" رئاسة الوزراء. وفي الحالتين، يكون الاستقطاب بين رؤيتين مختلفتين جذرياً لفرنسا وأوروبا، قد تكرّس رسمياً، على الطريقة الأميركية.
يبقى السؤال: هل يقف مسار التخبّط المؤسساتي وصعود "التجمّع الوطني"، أم تبقى المعالجات التقليدية قاصرة، فنشهد بعد الانتخابات التشريعية المبكرة تعديلات دستورية ومعركة رئاسية مبكرة؟