النهار

النهار

"صعود اليمين" في أوروبا... الأرقام لا تدعم المبالغات
جورج عيسى
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
أو بين "الهراء" و"الهستيريا"... هناك شيء مؤكّد
"صعود اليمين" في أوروبا... الأرقام لا تدعم المبالغات
رئيس حزب "التجمع الوطني" جوردان بارديلا (أ ف ب)
A+   A-

قيل الكثير عن "صعود اليمين" بعد الانتخابات الأوروبية الأخيرة أو حتى عن "تصدّر اليمين المتطرّف" نتائجها. لكنّ تدقيقاً في الأرقام والوقائع يؤكّد أنّ الكثير من العناوين والمخاوف مبالغ بها. على سبيل المثال، كتب تيموثي غارتون آش في صحيفة "ذا غارديان" تعليقاً على نتائج الانتخابات أنّ "أوروبا مجدّداً هي في خطر" بسبب "اليمين المتشدّد".

 

تكمن المشكلة الأولى في حشد بعض التحليلات "اليمين" ضمن بوتقة واحدة بالرغم من أنّ بعض أحزابه المتطرّفة لم تكن متحالفة حتى ضمن الدولة الواحدة. يمكن التفكير في "التجمّع الوطني" و"الاسترداد" في فرنسا على سبيل المثال. وتنافست ثلاث لوائح لليمين في الانتخابات الأخيرة إلى جانب أحزاب يمينيّة أخرى خاضت السباق بشكل مستقلّ، وهو دليل إضافيّ على أنّ ما يجمع "اليمين" قد يكون التوصيفات الصحافيّة أكثر من الرؤى وبرامج العمل.

 

الكتل واللوائح

حقّقت كتلة "حزب الشعب الأوروبّيّ" (يمين الوسط) المركز الأوّل مع نحو 185 مقعداً. كسب حزب الشعب 10 مقاعد عن الانتخابات الماضية، ويُفترض ألّا يشكّل ذلك ريبة للقلقين على المسار المستقبليّ للاتّحاد الأوروبّيّ. من أبرز وجوه هذا الحزب رئيسة المفوّضيّة الأوروبّيّة أورسولا فون دير لاين التي قد تكون على طريق الفوز بولاية ثانية في منصبها، وإن لم يكن الأمر يخلو من بعض الصعوبات. عموماً، كان أداء "حزب الشعب الأوروبّيّ" أفضل من توقّعات استطلاعات الرأي.

 
 
 

(فون دير لاين - أب)

 

ثانياً، حقّقت كتلة "المحافظين والإصلاحيّين الأوروبّيّين" تقدّماً بسيطاً محرزة 73 مقعداً، بزيادة 4 مقاعد عن الانتخابات الأخيرة. تقود رئيسة الوزراء الإيطاليّة جورجيا ميلوني وحزبها "إخوة إيطاليا" هذه اللائحة. لا يزال "إخوة إيطاليا" يوصف بأنّه "ما بعد فاشيّ" بالرغم من أنّ البعض ينتقد هذا الربط. كتب فرايزر نيلسون في مجلّة "سبكتيتور" البريطانيّة أنّ ميلوني أثبتت خلال حكمها إيطاليا لنحو 18 شهراً أنّها من يمين الوسط وقد جذبت معها البلاد أيضاً نحو الوسط. ولفت النظر إلى أنّ فون دير لاين نفسها قد تعمل مع ميلوني في البرلمان، ممّا يزيل عنها صبغة اليمين المتطرّف. حصلت ميلوني على نحو 29 في المئة من الأصوات بارتفاع أكثر من نقطتين عن الانتخابات التشريعيّة الإيطاليّة. بالتالي، لا تزال ميلوني تثبت أنّها ستكون شخصيّة محوريّة في إيطاليا كما في الاتّحاد الأوروبّيّ.

 

تعدّ معظم أحزاب كتلة "الهويّة والديموقراطيّة" من اليمين المتطرّف وفي مقدّمتها حزب "التجمّع الوطنيّ" بزعامة مارين لوبان. حقّق الحزب نجاحاً قياسيّاً في فرنسا مع أكثر من 31 في المئة من الأصوات على حساب حزب الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون (أقلّ من 15 نقطة). في خطوة لافتة، قامت لوبان بطرد حزب "البديل من أجل ألمانيا" من الكتلة بسبب دفاع مرشّحه البارز إلى الانتخابات ماكسيميليان كراه عن بعض أفراد فرقة "أس أس" النازيّة. وهذا تطوّر كبير باتّجاه اعتناق القيم الأوروبّيّة، لكنّه ليس جديداً. سبق أن طردت لوبان والدها من الحزب لأسباب عدّة من بينها دفاعه عن النازيّين. في جميع الأحوال، حقّقت هذه الكتلة تقدّماً بارزاً بفعل أرقام "التجمّع الوطنيّ" تحديداً، فحصلت على 58 مقعداً بزيادة 9 مقاعد عن الانتخابات الأخيرة. لكن باستثناء حزب لوبان، أصيبت جميع أحزاب اللائحة بخيبات أمل، بدءاً بـ "عصبة" ماتيو سالفيني في إيطاليا مروراً بـ "حزب الفنلنديّين" وصولاً إلى حزب "المصلحة الفلمنكيّة" الذي جاءت نتائجه أقلّ من التوقّعات أيضاً بالرغم من أنّه كان شبه متعادل مع منافسه اليمينيّ "التحالف الفلمنكيّ الجديد". (أجرت بلجيكا انتخابات تشريعيّة داخليّة في الوقت نفسه، حلّ خلالها يمين الوسط أولاً بين الفلمنك والوالون). وفي هولندا، تراجع حزب "الحرّيّة" اليمينيّ المتطرّف بزعامة خيرت فيلدرز إلى المركز الثاني أمام تحالف العمّال-الخضر، بعدما تصدّر نتائج الانتخابات المحلّيّة الأخيرة.

 
 
 

(مارين لوبان - أ ف ب/أرشيف)

 

في القسم الرابع من أطياف اليمين، هناك الأحزاب التي لم تجد لها مكاناً في الكتل الأخرى: "حزب البديل لأجل ألمانيا" وحزب "فيدس" بزعامة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان. "البديل" حقّق نسبة أصوات تصل إلى نحو 16 في المئة، وهي نسبة تأييد تفوق ما حصدته أحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة في ألمانيا. هي ضربة كبيرة بالنسبة إلى المستشار أولاف شولتس بالتأكيد. لكن ما يخفّف من وقع صعود "البديل" في ألمانيا هو أنّ أداء الحزب كان أسوأ ممّا توقّعته استطلاعات الرأي أوائل هذه السنة مع نحو 22 نقطة وأنّ يمين الوسط "الاتحاد الديموقراطيّ المسيحيّ" (فون دير لاين من صفوفه) حافظ على تقدّم مريح بين الناخبين الألمان وصل إلى 30 في المئة من أصواتهم. يبدو أنّ "البديل" طرد أيضاً كراه من صفوفه على أمل التمكّن من العودة إلى كتلة "الهويّة والديموقراطيّة".

 

وانضمّ حزب أوربان، المثير الدائم للصداع الأوروبّيّ في ما يتعلّق بدعم أوكرانيا، إلى فئة اليمين المنعزل في الانتخابات الأخيرة. لكنّ المشكلة الكبرى هي أنّه واجه أسوأ نتيجة له على الإطلاق. صحيحٌ أنّ "فيدس" حصل على نحو 45 في المئة من الأصوات، لكن هذا هو رقمه الأدنى على الصعيد الأوروبّيّ. لا شكّ في أنّ هذه الأنباء مريحة للوسط الأوروبّيّ بخاصّة مع الصعود السريع لحليف أوربان السابق بيتر ماجيار وحزبه "الاحترام والحرية" الذي تأسّس في غضون أشهر قليلة (30 نقطة).

 

بين "الهراء" و"الهستيريا"

بحسب نيلسون من مجلّة "سبكتيتور"، من "الهراء" توصيف جميع تلك الأحزاب بأنّها جزء من "اليمين المتطرّف"، فـ"الإصلاحيّون" و"الهويّة" جزء من "اليمين الجديد"، "بعضهم عنصريّون حقاً، وبعضهم معتدلون، لكنّهم جميعاً من التيّار السائد بشكل لم يكونوا عليه منذ 15 عاماً".

 

من جهته، كتب الأستاذ المشارك في جامعة جونز هوبكينز ماتياس ماثيس في مجلّة "فورين أفيرز" أنّ الانتخابات مثّلت تحوّلاً نحو اليمين لا يمكن نكرانه، وبشكل أساسيّ على حساب "الخضر" و"الليبراليّين". مع ذلك، لم يتحقّق بروز اليمين المتطرّف الشعبويّ الذي سادت مخاوف سابقة حياله كما أكّد. وأشار إلى أنّ اليمين واليسار المتطرّفين منقسمان على نفسيهما ممّا يعطي الوسط مزيداً من القوّة.

 

وإذا كان على المرء أن ينظر إلى الانتخابات التشريعيّة الماضية وحلول كتلة "حزب الشعب الأوروبّيّ" أيضاً في المركز الأوّل، يمكن القول إنّ أوروبا كانت تميل أساساً في اليمين. أعادت الانتخابات الأخيرة تأكيد ذلك. صحيحٌ أنّ النتائج في فرنسا وألمانيا تستحقّ نقاشاً خاصّاً ومعمّقاً (وبالتحديد بعد الانتخابات الفرنسيّة المقبلة)، لكن على العموم، لا يزال من المبكر جدّاً الحديث عن أيّ "تحوّل" بعيد المدى في هويّة أوروبا السياسيّة.

 
 
 

حاليّاً، تحتفظ أحزاب "الوسط" بنحو 450 مقعداً من أصل 720 وهي غالبيّة مريحة، كما أنّ القرارات التي اتُّخذت بفارق ضئيل في الأعوام الخمسة المقبلة بلغت 69 من أصل 2000، ممّا يظهر أنّ الانتخابات الأخيرة قد لا تؤثّر كثيراً على صناعة القرارات في الأعوام المقبلة.

 

ربّما قدّم الكاتب في موقع "أنهيرد" البريطانيّ توماس فازي التلخيص الأكثر دقّة لنتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة: "الحقيقة هي، بالرغم من هستيريا أمس (الأحد)، والتي فاقمها قرار ماكرون حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات، إنّ تأثير تلك الانتخابات لن يكون بارزاً كما يخشى أو يأمل الناس".