بعد يومين على صدور نتائج الانتخابات الأوروبّيّة، لاحظت صحيفة "لوموند" الفرنسيّة أنّ هناك "صدعاً ديموقراطيّاً مفارِقاً في أوروبا". ومضت كاتبة أنّ صعود اليمين المتطرّف في أوروبا كان "مذهلاً" في الجزء الغربيّ من القارّة حيث أصبح قوّة سياسيّة في الدول الكبرى الثلاث التي أسّست الاتّحاد: فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
على العكس من ذلك، كانت أوروبا الشرقيّة التي خضعت مطوّلاً للاتّحاد السوفياتيّ أبعد عن انتخاب اليمين المتطرّف. في بولندا ورومانيا وسلوفاكيا، فاز يمين الوسط أو يسار الوسط على حساب أقصى اليمين، وحتى في المجر، شهد تأييد حزب "فيدس" بقيادة رئيس الوزراء فيكتور أوربان تراجعاً كبيراً. رأت الصحيفة أنّ الحرب في أوكرانيا وقربَ تلك المناطق من التهديد الروسيّ لعبا دوراً في دفع الناخبين إلى التصويت للأحزاب الموالية بحزم لأوروبا التي رأوا فيها حماية من ذلك التهديد. لكن هناك الكثير ممّا لا يظهر في الصورة التي حلّلتها "لو موند".
انقسام ملتبس
ليس الانقسام بين شرق "وسطيّ" وغرب "يمينيّ متطرّف" بهذا الوضوح. في إسبانيا، فاز "حزب الشعب"، وهو جزء من كتلة "حزب الشعب الأوروبّيّ" (يمين الوسط)، بالمركز الأوّل مع 34.2 في المئة من الأصوات. تقدّم بذلك عن الانتخابات الماضية بنحو 14 نقطة. وحلّ في المركز الثاني "الحزب الاشتراكيّ العمّاليّ الإسبانيّ" بـ 30.2 في المئة من التأييد. في البرتغال، فاز "الحزب الاشتراكيّ" بالمرتبة الأولى مع 32.1 في المئة من الأصوات، بينما حلّ مباشرة خلفه في المرتبة الثانية التحالف الديموقراطيّ، أيضاً من كتلة "حزب الشعب الأوروبّيّ"، مع 31.1 في المئة من الأصوات.
(صورة مركّبة من أرشيف أ ف ب لميلوني ولوبان)
في إسبانيا والبرتغال أيضاً، حصد الحزبان المحسوبان على اليمين المتطرّف أقلّ من 10 نقاط مئويّة وإن كانا قد أحرزا تقدماً بسيطاً عن انتخابات 2019. ومع إضافة هولندا إلى الصورة حيث فاز "اليسار الأخضر-العمال" بالعدد الأكبر من الأصوات على حساب "حزب الحرية"، تصبح معادلة شرق-غرب أقلّ وضوحاً بالتأكيد. وثمّة إشكاليّة أخرى في تفسير سبب تصويت أوروبا الشرقيّة ضدّ اليمين المتطرّف/الشعبويّ.
أوكرانيا في المعادلة فعلاً؟
ربّما لعب الغزو الروسيّ لأوكرانيا دوراً في هذا الاتّجاه. في السويد وفنلندا الدولتين اللتين انضمّتا حديثاً إلى حلف شمال الأطلسيّ خوفاً من التهديدات الروسيّة، فازت أحزاب يمين أو يسار الوسط بالمراكز الثلاث الأولى على الأقلّ. المحسوبون على أقصى اليمين حصدوا ما بين 14 و15 في المئة فقط من الأصوات.
لكنّ دور الغزو الروسيّ لأوكرانيا يبقى هو الآخر دوراً غير واضح. فحزب "القانون والعدالة" المحسوب على اليمين الأقصى في بولندا والذي خسر أمام تحالف "الائتلاف المدنيّ" لرئيس الوزراء الحاليّ دونالد توسك كان متشدّداً في مواجهة روسيا. يقول البعض إنّ توسك فاز لأنّه صوّر خصمه شخصاً ضعيفاً تجاه روسيا. لكن في المحصّلة، كان الطرفان يتبادلان التهمة نفسها.
علاوة على ذلك، تشير إحصاءات أخرى إلى أنّه وبالرغم من الأداء المتفوّق للوسط في أوروبا الشرقيّة والوسطى، برز ارتفاع في عدد المقاعد التي حصدتها الأحزاب الموالية لروسيا في تلك المنطقة. على الضفّة الأخرى، لم يكن كلّ اليمين المتطرّف مؤيّداً لروسيا. إذا كانت جورجيا ميلوني معروفة منذ فترة طويلة بأنّها مناهضة لحرب روسيا على أوكرانيا، فإنّ موقف مارين لوبان بالمقابل كان مفاجئاً في بعض المحطّات حين دعمت بقوّة حقّ كييف في الدفاع عن النفس. قد لا يصمد موقف لوبان طويلاً إذا وصل حزبها "التجمّع الوطنيّ" إلى الحكم، لكن مع ذلك، يصعب وضع اليمين المتطرّف بأكمله في خانة المناهضين لأوكرانيا. في نهاية المطاف، نشأ اليمين المتطرّف إلى حدّ كبير كردّ فعل على سياسة اللجوء في المقام الأول.
مشكلة الصورة الجيوسياسيّة
من المطبّات التي يواجهها تحليل نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة محاولة استنتاج صورة جيوسياسيّة لحدث يبقى محلّيّاً إلى حدّ كبير. لا ريب في أنّ الأحزاب الوطنيّة تتمثّل ضمن كتلٍ قارّيّة واسعة، لكن إلى اليوم، تمثّل الأصوات التي تحصل عليها تلك الأحزاب ديناميّات داخليّة أكثر منها إقليميّة. صحيحٌ أنّ ذلك قد يتغيّر في المستقبل. لكن في الوقت الراهن، يصعب توسيع السياسات المحلّيّة لتطبيقها على نطاق أوروبّيّ واسع. في الواقع، تظهر دراسات أنّ معظم الأوروبّيّين لا يفهمون أو يهتمّون للبرلمان الأوروبّيّ، أي بمعنى آخر، هم لا يتوجّهون إلى صناديق الاقتراع وفي ذهنهم تقييم سياسات رئيسة المفوّضيّة الأوروبّيّة أورسولا فون دير لاين.
(ميلوني وفون دير لاين - "أ ب)
لذلك إنّ التركيز على فهم "التحوّلات" في القارّة العجوز من المنظور الأوسع قد يعرقل فهم الأسباب الأصغر، لكن الأدقّ، لخيارات تصويت الناخبين. على سبيل المثال، خطف الحزب اليمينيّ المتطرّف "البديل من أجل ألمانيا" أنظار الصحافة العالميّة بسبب تفوّقه على كلّ حزب من أحزاب الائتلاف الثلاثيّ الحاكم. تركّزت غالبيّة الأصوات التي حصدها في الشرق. على الرغم من أنّ ألمانيا الشرقيّة والغربيّة توحّدتا منذ فترة طويلة، ثمّة شعور بالغبن موجود لدى بعض الألمان الشرقيّين بسبب التفاوت الاجتماعيّ والاقتصاديّ بين المنطقتين. هذا، على سبيل المثال، أحد العوامل التي يمكن أن تشرح صعود "البديل" والذي لا يمكن اللجوء إليه لمحاولة فهم صعود "إخوة إيطاليا" أو "التجمّع الوطنيّ" في فرنسا، ناهيكم عن "حزب الحرّيّة" في النمسا.
ينتشر مثلٌ على نطاق واسع في الولايات المتحدة مفاده أنّ "كلّ السياسات محلّيّة". إلى حدّ كبير، ليست أوروبا مستثناة من هذه القاعدة.