ليست مسألة سهلة هذا الصعود البارز لأحزاب اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، إذ إنها تخطت التوقعات التي كانت ترصد زيادة التعاطف مع خطابها الشعبويّ، حتى وصفتها بعض الصحف الأوروبية بأنها "زلزال سياسي".
لكن في هذه الانتخابات مفارقات لافتة، فقد حصدت هذه الأحزاب مقاعدها في الدول الكبيرة مثل إيطاليا وفرنسا والمجر وبولندا وهولندا وبلجيكا والنمسا والبرتغال، وإسبانيا نسبياً.
بينما الدول الصغيرة مثل مالطا واللوكسمبورغ وإيرلندا بقي اليمين بعيداً عنها، وفي ألمانيا على الرغم من الحملات التي شنت ضد اليمين المتطرف والتي ساهمت بتراجعه ولم يحقق خرقاً مثل ما حصل في فرنسا، لكنه حلّ ثانياً.
تفسيرات عدة رافقت هذه النتائج، وكثرت التحليلات في محاولة لوضع رسم تشبيهيّ لمستقبل الاتحاد الأوروبي وسياساته. إلّا أن الثابت أن العوامل التي ساعدت في صعود أقصى اليمين هي تلك المرتبطة مباشرة بالأزمة الاقتصادية والتي تفاقمت عقب الحرب في أوكرانيا، وتراجع دور أوروبا في العالم، إضافة إلى أزمة المهاجربن التي تعدّ من أساسيات الخطاب الشعبوي.
وفي خريطة البرلمان الأوروبي، جاءت نتائج التصويت الفرنسي لتكون الصورة الفاقعة، مع حصد حزب مارين لوبن ما يقارب 32 في المئة من الأصوات، ما دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة.
الخطوة الرئاسيّة هذه، رأى فيها الصحافيون الفرنسيون أنها نوع من "المقامرة" بمستقبله الرئاسي، على الرغم من وجود سوابق لها في التاريخ الفرنسي الحديث، ونجحت مع شارل ديغول وفرنسوا ميتران، لكن مثل هذا الرهان فشل فيه جاك شيراك وكان الثمن تأليف حكومة ائتلافية نتج منها أن يستكمل عهده بمشكلات لم يكن بمقدوره تخطيها.
غير أن هذا الصعود الصاروخي لليمين المتطرف الفرنسي، لا يعني حكماً أنه سيسيطر على الحياة السياسية الداخلية. فالمعايير التي تُخاض على أساسها الانتخابات الأوروبية مختلفة عن تلك الداخلية.
على مستوى الاتحاد هناك قضايا عامة قادر اليمين المتطرف على استغلالها في خطابه الشعبوي، من دون تقديم حلول جذريّة لها، بدليل أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي تتزعم حزب "إخوة إيطاليا" اليميني والذي حصل على ما لا يقل عن 27 في المئة من الأصوات، اضطرت إلى تبني سياسات تتوافق وتوجهات الاتحاد الأوروبي بعد وصولها إلى منصبها.
هذا من جهة، أما من جهة الانتخابات المحلية، فالأحزاب اليسارية واليمينية المعتدلة متجذرة بالحياة السياسية ولها قواعد ثابتة على عكس المتطرفة التي بدأ صعودها في العقد الأخير.
ومما لا شك فيه، أن أقصى اليمين استفاد من التراجع الاقتصادي وارتفاع نسب التضخم التي تفاقمت مع الحرب الأوكرانية.
ولعلّ دعوات الرئيس الفرنسي إلى زيادة حجم التدخل في الحرب وإعلانه صراحة عن استعداده لإرسال وحدات عسكرية لمؤازرة كييف كان له الوقع السلبيّ عند الفرنسيين الذين يعانون مشكلات اقتصادية كبيرة شأنهم شأن باقي أوروبا.
هذا إلى جانب موضوع المهاجرين الذي يعد من الأسباب الرئيسة أيضاً أمام تصاعد الخطاب الشعبوي عند "حزب التجمع الوطني" الذي تتزعمه لوبن.
لكن أمام لوبن وحزبها مهمة صعبة لتحقيق الطموحات السياسية داخل فرنسا، ومنها تأمين تحالف مع أحزاب يمين الوسط مثل "الجمهوريون" الديغولي، وهذا ما هو صعب المنال، لا سيما أن الأصوات تعالت داخل الحزب طلباً لاستقالة رئيسه إريك سيوتي، إثر دعوته لإقامة تحالف مع "التجمع الوطني". وتطور الأمر حتى وصل إلى المطالبة باستقالة رئيسه في مجلس الشيوخ الفرنسي جيرار لارشيه. وقد رأى وزير الداخلية جيرار دارمانان، أن دعوة سيوتي "تغرق الديغوليين في العار". مع الإشارة إلى أن حزب "الجمهوريون" شهد تراجعاً كبيراً في عدد الأصوات المؤيدة له.
العلم الفلسطيني عند تمثال "النصب التذكاري للجمهورية" في باريس في تظاهرة ضدّ لوبان (أ ف ب)
غزة حاضرة من الانتخابات
مسألة أخرى برزت على الساحة الانتخابية الأوروبية والفرنسية في آن، إذ إن أحزاباً في أقصى اليسار مثل "فرنسا الأبية" الذي يتزعمه جان لوك ميلنشون وضع على قائمة مرشحيه المحامية الفرنسية من أصل فلسطيني ريما حسن، ما يشير إلى أن الحرب في غزة كانت جزءاً من الحملة الانتخابية، وبالفعل عزز هذا الحزب حضوره ببلوغه عتبة 10 في المئة من الأصوات.
والسجال الأوروبي حول الحرب في غزة، ظهر جلياً من خلال تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في اجتماع بروكسل الثامن حول النازحين.
وتداعيات هذه القضية لم تقتصر على الشارع الفرنسي، بل وصلت إلى ألمانيا التي حاول قادتها تقييد نفوذ الأحزاب اليمينية مثل "البديل"، وفي الوقت نفسه تجنب قيام تظاهرات داعمة للفلسطنيين.
فقد حقق حزب "دافا" وهو اختصار لـ"التحالف الديموقراطي من أجل التنوع والتنمية"، على ما يقارب 150 ألف صوت، وهو كان قد أثار جدلاً على اعتبار أنه حزب قريب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويتبنى "دافا" موقفاً داعماً بقوة لفلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني.
كذلك بالنسبة للحزب الألماني اليساري MERA25الذي حلّ في المرتبة الثانية بعد "دافا" في قائمة الأحزاب الداعمة للفلسطينيين بما يقارب 120 ألف صوت، مع الإشارة إلى أن هذا الحزب يحمل الاسم ذاته لنظيره اليوناني.
وقد بلغ مجمل أصوات الأحزاب الستة التي وضعت غزة ضمن خطابها الانتخابي، ما يزيد عن 300 ألف صوت في ألمانيا.
مستقبل الاتحاد الأوروبي
على ضوء ذلك، يقف الاتحاد الأوروبي أمام مفترق يقرر مصيره خلال الأعوام الخمسة المقبلة من عمر البرلمان الحالي، مع تساؤلات لا يمكن أن تلقى جواباً شافياً في الوقت الراهن: هل يتمكن تكتل اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي من تغيير سياسات الاتحاد تجاه الحرب في أوكرانيا، مع ما تمثله من ضغوط اقتصادية؟ هل الأكثرية التي حافظت عليها القوى السياسية التقليدية ستنتهج سياسة مغايرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ والسؤال الأقرب للاجابة عنه: هل ستعزز هذه النتائج من فرص المرشح دونالد ترامب للعودة إلى البيت الأبيض؟
كل سؤال من هذه الأسئلة له مترتبات داخلية وتداخلات خارجية، إذ لا يمكن لأوروبا اتخاذ موقف موحد حول الحرب في أوكرانيا بمعزل عن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما أن أوروبا نفسها غير متفقة على موقف واحد بين التدخل العسكري المباشر كما تقول فرنسا، أو الإبقاء على الدعم كما هو حالياً. وبالتالي ما دامت الحرب على الأبواب فلن تشهد القارة العجوز تحسناً في اقتصادها، بل على العكس.
وإن كان اليمين المتطرف قد رفع من شعبيته مستغلاً أزمة المهاجرين، فهذا يتطلب من أوروبا العمل الجدي على وقف الحرب في غزة، والبدء ولو بالحدّ الأدنى على حلِّ بعضٍ من أزمات الشرق الأوسط المتناسلة، وإعادة النظر بطبيعة العلاقة مع دول شمال أفريقيا بمنهجية تضمن الأمن الاجتماعي والاقتصادي لهذه الدول. إنما مع تقهقر النفوذ الأوروبي في أفريقيا وتراجعه في المشرق العربي، لا يمكن تعليق الآمال على شيء من هذا القبيل في وقت قريب.
أما المسألة الثالثة المتعلقة بالانتخابات الأميركية فهي مسألة ملتبسة، إذ إن اهتمامات الناخب الأميركي مختلفة عنها عند الأوروبي وإن تشاركا في مسألة المهاجرين.
الأميركيون عادة قلّما يعيرون المسائل الخارجية اهتماماً، فورقة الاقتراع عندهم تحدد وجهتها الملفات الداخلية وقضاياها الخاصة المرتبطة بالخدمات الاجتماعية والسياسة الضريبية والإجهاض وغيرها الكثير.
لكن أيضاً هناك نقطة مشتركة مع الانتخابات الأوروبية، وهي الحرب في غزة مع ما رافقها من تحركات وتظاهرات أبرزها تلك التي تشهدها الجامعات الأميركية، وهنا قد تتقاطع المصالح المشتركة على ضفتي الأطلسي، مع الخصم العسكري في موسكو والاقتصادي في بكين لإخراج الشرق الأوسط من دوامة النار التي يشتعل بها منذ تسعة أشهر.
والمجتمع الدولي يدرك جيداً أن تفاقم النزاع مع التصعيد التدريجي الذي تشهده ساحات الحرب في الشرق الأوسط، لن يبقي الأمور محصورة في بقعة جغرافية محددة، بل هو مرشح للتوسع بما يترافق ذلك من أضرار كبيرة ستلحق بالاقتصادات العالمية التي تعاني أصلاً التضخم الذي تراكم منذ جائحة كورونا. والأمر نفسه قد ينسحب على الحرب الأوكرانية وإنّ بمقاربات مختلفة.