باريس - شارل سابا
الحزب الذي كان يُعدّ على هامش الحياة السياسية الفرنسية، وملفوظاً من نخبها، ومنبوذاً من "قوسها الجمهوري" بات يحوز على تأييد أكثر من ثلث الفرنسيين في استطلاعات الرأي، في حين أن أقل من نصف الفرنسيين باتوا لا يعتبرونه تهديداً للديموقراطية والقيم الجمهورية. لم يحصل الأمر صدفة، إذ إن زعيمة الحزب مارين لوبن استطاعت الخروج من قوقعة المؤيدين التقليديين للحزب، وتوسيع قابلية شرائح كبيرة محسوبة سابقاً على اليمين المحافظ، وأحياناً اليسار، له معتمدة بشكل رئيسي على خطاب أكثر براغماتية وعلى رئيس "غير تقليدي" للحزب.
خطاب أكثر استهدافاً للمهمشين اقتصادياً
تتمركز الكتلة الصلبة لناخبي "التجمّع الوطني" عموماً في المناطق التي تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية، مما يجذب الناخبين الباحثين عن تغيير جذري. مثلاً يحظى "التجمع" بدعم قوي في المناطق الريفية، حيث يشعر السكان في هذه المناطق بالتهميش من الأحزاب التقليدية ويرون في الحزب ممثلاً لمصالحهم وتطلعاتهم. هذه المناطق غالباً ما تكون أقل نمواً اقتصادياً وتعاني من مشاكل مثل البطالة وانخفاض الخدمات العامة. كذلك، ينتشر في المناطق الصناعية السابقة مثل شمال فرنسا ومنطقة باس - نورماندي، حيث يجد الحزب قاعدة دعم قوية بين العمال السابقين وعائلاتهم الذين يعانون من تداعيات العولمة وانخفاض الصناعات التقليدية. إلى ذلك، يتمتع الحزب بشعبية كبيرة في جنوب فرنسا، وخاصة في المناطق مثل بروفنس وأجزاء من لانغدوك - روسيلون. وتشهد هذه المناطق ارتفاعاً في معدلات الهجرة. وعلى هذه الشاكلة، تنمو الحساسية ذاتها في بعض الضواحي الفقيرة في المدن الكبرى، حيث يعيش الكثير من المهاجرين.
وفيما كان تمركز هذه الكتلة مشابهاً إلى حدّ ما أيام "الجبهة الوطنية" برئاسة جان ماري لوبن، إلا أن "التجمّع الوطني" نجح في التوسّع بالاستناد إلى سلسلة تشمل عدة جوانب تشمل الأيديولوجية، والأسلوب الخطابي، والاستراتيجيات السياسية. فبدلاً من الخطاب العنصري والمواقف المباشرة المثيرة للجدل لجان ماري لوبن كالتشكيك في الهولوكوست، اعتمد "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبن، ثم برئاسة جوردان بارديللا تلطيف الخطاب وتخفيف حدة التصريحات المثيرة للجدل لجعل الحزب أكثر قبولاً لدى الجمهور الواسع. كذلك، حلّت اللهجة الهادئة والعقلانية بدلاً من الصدامية والاستفزازية، في توجّه يعكس المسعى إلى تقديم الحزب كبديل حكم وليس كقوّة جذب انتباه. على صعيد التكتيك السياسي، انتقلت الحالة اليمينية الراديكالية من نهج تصادمي مع النظام السياسي إلى بناء تحالفات وتقديم الحزب كخيار قابل للتطبيق.
تغيير الصورة بشاب وسيم دون الـ30 عاماً
بالرغم من إعادة "اختراع" خطاب أكثر جاذبيّة، وتحديث صورة الحزب وجعله أكثر جاذبية للناخبين من الطبقات الوسطى والعليا، مع التركيز على السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تهمهم، بقيت ديموغرافيا ناخبي الحزب تشير إلى مشاكل تعتري شعبيته بين الشباب والنساء، رغم أن زعيمته امرأة، الأمر الذي حدا بمارين لوبن إلى الانتقال إلى قيادة أكثر تشاركية، مع التركيز على تمكين الأعضاء الشباب وإشراكهم في صنع القرار. وعليه، أتت عام 2022 بجوردان بارديلا رئيساً للحزب وللائحته في الانتخابات الأوروبية ومرشحاً إلى رئاسة الوزراء.
يبلغ جوردان بارديلا من العمر 28 عاماً، وهو ينحدر من أصول إيطالية، ونشأ في عائلة من الطبقة العاملة في ضاحية سين – سان - دوني، وهي منطقة معروفة بتنوعها العرقي والاجتماعي. لم يكمل دراسته الجامعية في الجغرافيا لانشغاله بالنشاط السياسي في "التجمع الوطني"، فأثبت جدارته في الساحة الحزبية في سن مبكرة، حتى أصبح رئيساً للحزب بعد فوزه في تصويت داخلي بنسبة 85%.
يتمتّع الرجل بمهارات تواصل فعالة وشعبية واسعة، خصوصاً بين الشباب، إذ بات لديه أكثر من 1.2 مليون متابع على منصة "تيك توك". وقد تكون خلفيته كابن لمهاجرين وتربيته في ضواحي باريس قد أكسبته جاذبية خاصة لدى قاعدة واسعة من الناخبين الذين يشعرون بالتهميش من الطبقة السياسية التقليدية. إضافة إلى ذلك، يُعتبر من الجيل الجديد الذي لا يتأثر بالتابوهات المرتبطة بالحزب منذ زمن بعيد، وهذا ما يجعل من دعمه فرصة لجذب المزيد من الناخبين الذين يرغبون في التغيير.
في المحصّلة، يختصر الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في معرض حديثه إلى "لو جورنال دو ديمانش" الأحد الفائت، تطوّر الخطاب السياسي لـ"اليمين الراديكالي" وحملاته الإنتخابية الأخيرة، وقصور أخصامه عن إعاقة تقدّمه الثابت من سنوات عدّة بالقول: "عمل على نفسه، ومواجهته على أنّه لم يتغيّر، وأنّه لا يزال حزب جان ماري لوبن صاحب وصف "التفصيل" عن إبادة اليهود في الحرب العالمية الثانية، هو خطأ جسيم. فمن المستحيل إصابة هدف بالتصويب إلى جانبه. ولدى جوردان بارديلا مواهب عدّة أبرزها إجادة التعبير. هو تنقصه الخبرة، لأنه لم يكن في موضع إدارة أي شيء سابقاً، وهو ما دون سنّ الثلاثين عاماً، ما يطرح السؤال عن قدرة قيادة فرنسا بهذا السن وهذا النقص في الخبرة".
هذا ليس توصيفاً، إنه، وبسبب مضمون المنطوق وهويّة الناطق به، إقرار بدخول "التجمع الوطني" دائرة الحكم، وإن أبقته الصناديق خارجها مؤقتاً.