"خسارة ساحقة للمحافظين". إنّه التوصيف الأكثر انتشاراً لنتائج الانتخابات الأخيرة في المملكة المتّحدة. ليس هذا التعبير مجافياً تماماً للواقع. في زاوية معيّنة هو صحيحٌ ودقيق.
فلنقرأ مثلاً ما قاله الرئيس السابق لحزب "العمّال" جيريمي كوربين حين وصّف ما جرى بعد فوزه في الانتخابات كمستقلّ: "إنّه انتصار ساحق (على مستوى) المقاعد". بالفعل هو كذلك. حتى مساء الجمعة، حصل "العمّال" على 412 مقعداً بينما حصد "المحافظون" 121 مقعداً فقط.
(كوربين - أب)
لكن ماذا على صعيد نسبة الأصوات؟ هنا تتغيّر الإجابة بشكل ملحوظ. يعتقد محلّلون أنّ فوز "العمّال" أتى نتيجة لانقسام أصوات اليمين بشكل عامّ بين "المحافظين" و"الإصلاحيّين" (نسبة لـ"حزب إصلاح المملكة المتحدة" بقيادة نايجل فاراج المحسوب على اليمين الشعبويّ). وهناك أيضاً ناخبون من اليمين صوّتوا لـ "الديموقراطيّين الليبراليّين". حتى من دون احتساب الأخير، نال "الإصلاحيّون" و"المحافظون"، أي من ينضوون تحت عباءة الفكر المحافظ ككل، نسبة أصوات تفوق ما حصل عليه "العمّال" بقيادة كير ستارمر.
لا نوم على حرير
تمتّع ستارمر الذي يقال إنّ والديه اختارا اسمه تيمّناً بأوّل رئيس للحزب، بليلة ناجحة حتماً. قد تكون نتيجة "المحافظين" (كحزب حصراً) هي الأسوأ منذ سنة 1832 كما كتب شون أوغريدي في صحيفة "ذي اندبندنت". خلال كلمته بعد صدور النتائج، قال ستارمر: "لقد قلنا إنّنا سننهي الفوضى، وسننهيها. قلنا إنّنا سنطوي الصفحة، وطويناها. اليوم نبدأ الفصل التالي... ونبدأ إعادة بناء بلادنا. شكراً لكم".
لكنّ قلّة نصحته بالنوم على حرير. ما حصل، على الأرجح، هو أنّ الناخبين أولوا الاهتمام الأوّل لمعاقبة "المحافظين"، لا لمكافأة "العمّال". عادة ما تأكل السلطة شعبيّةَ صاحبها مع مرور الوقت. ظلّ "المحافظون" في السلطة 14 عاماً، وهي فترة كافية لتدفع الناس إلى التغيير، حتى ولو من باب الملل. فكيف الحال بالنسبة إلى حزب واجه سلسلة من الإخفاقات، إن لم يكن من الفضائح، طوال هذه الأعوام؟
مجازفة
بحسب أوغريدي، بدأ ضمور قوّة هيئة الخدمات الصحّيّة الوطنيّة في عهد ديفيد كاميرون. وأشرفت تيريزا ماي لاحقاً على فضيحة ويندراش التي شملت احتجاز وترحيل أشخاص عن طريق الخطأ. ثمّ أتى بوريس جونسون بأثقال "بريكست" وفضائح عدّة أهمّها فضيحة الحفلة أثناء الإغلاق بسبب "كوفيد-19". وساءت الأوضاع الاقتصاديّة أكثر في عهدي ليز تراس وريشي سوناك.
(سوناك - أب)
بالتالي، يصبح بالإمكان فهم سبب غضب ناخبي اليمين من "المحافظين". كتب رافاييل بيهر في صحيفة "ذا غارديان" أنّ الناخبين المتأرجحين في معاقل "المحافظين" الذين صوّتوا لـ "الليبراليّين" كانوا يَعلمون أنّ طرد "المحافظين" من مقاعدهم ترادف مع مخاطرة بإنجاح "العمّال" على حساب الآخرين. "مع ذلك، كانوا سعداء بالإقدام على المجازفة".
انقلاب الصورة
من بين ضحايا هذه "المجازفة" كبار المسؤولين "المحافظين"، مثل رئيسة مجلس العموم بيني موردونت ووزير الدفاع غرانت شابس ووزيرة التعليم جيليان كيغان. وبالرغم من حفاظه على مقعده، أعلن سوناك استقالته من رئاسة الحزب بعد النتائج المخيّبة. وزيرة الداخليّة السابقة سويلا برافرمان التي نجت من الليلة الصعبة قد تكون في طور الاستعداد للترشّح إلى رئاسة الحزب. كان مستشار الخزانة جيريمي هانت من بين المحظوظين أيضاً، ولو بشقّ الأنفس.
تشرح مجلّة "إيكونوميست" البريطانيّة في تقريرها عن نتائج الانتخابات كيف انقلبت الصورة بين "المحافظين" و"العمّال". حافظ الطرف الأوّل على صدارته لفترة طويلة، بما أنّ المنتمين للفكر المحافظ احتشدوا خلف الحزب نفسه، بينما تبعثرت أصوات اليسار خلف أحزاب عدّة. على سبيل المثال، نال "المحافظون" و"الإصلاحيّون" معاً نحو 41 في المئة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة مقابل نحو 36 لـ "العمّال". خلال عهد تاتشر، كانت أصوات اليسار أكبر من أصوات "المحافظين" مثلاً، لكنّها كانت مبعثرة.
معضلة "المحافظين"... ورون ديسانتيس
مع وضع الأرقام جانباً، سيواجه "المحافظون" معضلة سياسيّة في المستقبل القريب. هل "يقتلون" أو "يندمجون" مع "الإصلاحيّين" (merger or murder) بقيادة فاراج؟ ليست الإجابة سهلة بحسب "إيكونوميست". يريد فاراج نفسه قتل "المحافظين" (فاز بمقعد بعد سبع محاولات فاشلة) بينما يحتاج "المحافظون" إلى الكاريزما الخاصّة به. المعضلة هي أنّ الحزب جمع في السابق أثرياء المدن و"الغوغاء". لكنّ أثرياء المدن اليوم، بعكس "الغوغاء"، ليسوا معجبين بخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبّيّ، وقد انتهوا بدفع ثمنه، بحسب التحليل نفسه.
بالفعل، ما من خيارات مستقبليّة سهلة أمام المحافظين. وأساساً، ثمّة اختلاف حول بعض أسباب خسارتهم. في إطار محاولتهم التفوّق على "الإصلاح"، هل كانوا "شعبويّين" أكثر أو أقلّ من اللازم؟ رافاييل بيهر من "ذا غارديان" يرى أنّ سوناك تعلّم بالطريقة الصعبة كيف أنّ التصرّف بشعبويّة لكسب أصوات الناخبين يدفعهم لاختيار الشعبويّ الأصليّ.
ربّما كان على "المحافظين" الاتّعاظ من تجربة مماثلة عمرها بضعة أشهر حصلت على الضفّة الغربيّة للمحيط الأطلسيّ. حين حاول حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس أن يكون ترامبيّاً أكثر من ترامب، فشل فشلاً ذريعاً.
"أزمة وجوديّة"
في جميع الأحوال، على "المحافظين" أن يقرّروا الطريق التي يجب سلوكها، لأنّ خطر فاراج يمثّل "أزمة وجوديّة مباشرة" لهم بحسب الكاتب في صحيفة "فايننشال تايمز" روبرت شريمسلي. عليهم إمّا أن يعيدوا توحيد اليمين وتهميش "الإصلاح" عبر سرقة سياساته أو البقاء في يمين الوسط وإعادة بناء الثقة مع تراجع شعبيّة "العمّال". لسوء الحظّ بالنسبة إلى الزعيم المقبل لـ "المحافظين"، سيتوجّب عليه فعل الأمرين معاً بحسب شريمسلي.
الفرق الوحيد بين "المحافظين" و"العمّال"، بالحدّ الأدنى في الوقت الحاليّ، هو أنّ لدى الطرف الثاني سبباً للاحتفال. بشرط ألّا يطول كثيراً. في سنة 2017، على سبيل المثال، حصل حزب "العمّال" بقيادة كوربين على 40 في المئة من الأصوات، أي أكثر ممّا حصده ستارمر مؤخّراً. ليس هذا انتقاصاً من حجم الانتصار. كما يكتب بن سيكسميث في مجلّة "ذا كريتيك" البريطانيّة، إنّ هامش فوز ستارمر كبير إلى درجة أنّ ترامب نفسه سيجد صعوبة في التشكيك به. مع ذلك، يذكّر سيكسميث بأنّ من ينجح بفعل قوّته الخاصّة يختلف عمّن ينجح بفعل ضعف خصمه، مشيراً إلى أنّ واقع خسارة ستارمر نحو نصف الأصوات في دائرته الانتخابيّة يعني أنّه ليس بمأمن عن تقلّبات المستقبل.
في الخندق نفسه
يرى أكثر من مراقب أنّ الناخب البريطانيّ أصبح متقلّباً وأقلّ تحزّباً. استعاد "العمّال" بعض الناخبين ممّن ينتمون إلى ما يُعرف بـ "الجدار الأحمر"، وهو عبارة عن حزام صناعيّ في وسط وشمال المملكة تقريباً كان ناخبوه يصوّتون لليسار قبل تغيير آرائهم بفعل تراجع حجم صناعاتهم. مع ذلك، لن تكون أصواتهم المستقبليّة لـ"العمّال" مضمونة. وإذا كان "المحافظون" يمثّلون ديموغرافيا انتخابيّة متباينة فحزب "العمّال" غير بعيد من هذا الواقع.
وفق سيكسميث، سيتعيّن على ستارمر في السنوات المقبلة أن يحسّن الاقتصاد بما يكفي وحسب، ويخفّض الهجرة الشرعيّة وغير الشرعيّة أيضاً بما فيه الكفاية وحسب، كي يبقي ناخبي اليمين وأقصى اليسار إلى جانبه.
إذا كان هناك من "انتصار ساحق" حقيقيّ في هذه الانتخابات، فهو للمعضلات التي تواجه الفائز والخاسر على حدّ سواء.