بعد المفاجأة التي أتت بها نتائج الانتخابات التشريعية مفرزة جمعية وطنية مشرذمة بين ثلاث كتل، تبدأ الطبقة السياسية الفرنسية الإثنين المداولات لبناء غالبية مجهولة المعالم وتعيين رئيس للوزراء.
كان يتوقّع أن يتصدّر اليمين المتطرّف الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية إلا أنّه حلّ ثالثاً، بعدما تشكّلت " جبهة جمهورية " من جانب اليسار والوسط في الفترة الفاصلة بين الدورتين الانتخابيتين، حرمته من الوصول إلى السلطة. إلا أنّه حقّق تقدّماً لافتاً مع توقّع حصوله على 135 إلى 145 نائباً.
ومن دون حصول أي طرف على الغالبية المطلقة وحلول تحالف يساري هش في الصدارة يتعيّن عليه الصمود أمام تحدّي وحدة الصف، ومعسكر رئاسي استطاع إنقاذ ماء الوجه لكنّه لا يمكنه الاستمرار بمفرده، تجد فرنسا نفسها الإثنين في أجواء غير مسبوقة مطبوعة بعدم اليقين.
تحدّت الجبهة الشعبية الجديدة التوقّعات وأصبحت القوّة الأولى في الجمعية الوطنية مع 177 إلى 198 نائباً متقدّمة على المعسكر الماكروني. وإن كانت تبقى بعيدة عن الغالبية المطلقة المحدّدة بـ289 نائباً، إلا أنّها قد تثبت سريعاً أنّها قوّة لا يمكن الالتفاف عليها.
إلا أن الحزب الرئيسي فيها، " فرنسا الأبية " الذي ينتمي إلى اليسار الراديكالي، هو محور توتّرات كثيرة في ما زعيمه جان-لوك ميلانشون الاستفزازي لكنّه يتمتّع بكاريسما معيّنة، ينفر حتى البعض في صفوف معسكره.
ودعت النائبة عن "فرنسا الأبية" كليمانتين أوتان نواب الجبهة الشعبية الجديدة إلى الاجتماع الإثنين "في جلسة عامة" لاقتراح مرشّح لرئاسة الوزراء على ماكرون "لا يكون (الرئيس السابق الذي انتخب نائباً الأحد) فرنسوا هولاند ولا جان لوك ميلانشون".
"من يرغب بالحكم"
وتمنّت أن "تكون الجبهة الشعبية الجديدة على تنوّعها، قادرة على القول إنّها قبّة الميزان التي تسمح بالحكم".
أمّا النائب فرنسوا روفان الذي انفصل نهائياً عن "فرنسا الأبية"، فدعا من جهّته إلى الحكم "بلطف"، في انتقاد مبطّن لميلانشون الذي سبق وترشّح ثلاث مرّات للانتخابات الرئاسية والذي يصفه بأنّه من أنصار "الغوغاء والغضب".
وتشير كريستيل كرابليه من معهد "بي في أ" لاستطلاعات الرأي في هذا الإطار الى "عدد من نقاط عدم اليقين. هل هناك هيمنة لفرنسا الأبية؟ هل هناك إعادة ضبط في صفوف الاشتراكيين؟ من يرغب بالحكم وعلى أساس أي برنامج؟".
وحقّقت الغالبية الرئاسية التي حلّت ثانية بعدما صمدت بشكل غير متوقّع، 152 إلى 169 نائباً.
وأعلن قصر الإليزيه مساء الأحد أن ماكرون الذي لم يعلّق رسمياً بعد، سينتظر "تشكيلة" الجمعية الوطنية ليقرّر من سيعيّن في منصب رئيس الوزراء.
وقال رئيس الوزراء غابريال أتال إنّه سيقدّم استقالته الإثنين لكنّه مستعد للبقاء في منصبه "طالما يستدعي الواجب" خصوصاً مع استضافة باريس دورة الألعاب الأولمبية قريباً.
ورحّب بنتائج الانتخابات قائلاً "لا يمكن لأي من المتطرّفين قيادة غالبية مطلقة".
وحذّر وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه من أن الغالبية المنتهية ولايتها ستضع "شروطاً مسبقة لأي نقاش" من أجل تشكيل غالبية جديدة ذاكراً العلمانية والبناء الأوروبي ودعم اوكرانيا.
وختم بقوله إن ميلانشون "والبعض من حلفائه لا يمكنهم حكم فرنسا".
"نصر مؤجل"
أمّا " التجمّع الوطني "، فقد حقّق تقدّماً في البرلمان إلا أنّه تخلّف كثيراً عن الغالبية النسبية أو المطلقة التي كان يحلم بها.
وأعلنت زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن "نصرنا مؤجل فحسب. المد يرتفع. لم يرتفع بالمستوى الكافي هذه المرة لكنه يستمر بالصعود"، مضيفة "لدي خبرة كبيرة تكفي لكي لا أشعر بخيبة أمل بنتيجة ضاعفنا فيها عدد نوابنا".
أمّا رئيس "التجمّع الوطني" جوردان بارديلا فقد حمل على "تحالف العار" الذي شكّلته الجبهة الجمهورية في وجه معسكره.
و"التجمّع الوطني" هو القوة الوحيدة التي حسمت الإثنين أنّها ستكون في معسكر المعارضة لكن مع صوت أقوى داخل الجمعية الوطنية. ولا تزال مارين لوبن تضع نصب عينيها الانتخابات الرئاسية في العام 2027.
لكن عليها في الوقت الراهن أن تدرك أن غالبية من الفرنسيين لا تزال ترفض أن يتولّى اليمين المتطرّف الحكم.
ومساء الأحد، تجمّع آلاف الأشخاص في ساحة الجمهورية في باريس للاحتفال بهزيمتها في أجواء فرح مع إطلاق ألعاب نارية واحتفالات صاخبة في ما غنى البعض النشيد الوطني.
وفي ساحة أخرى شرق باريس، عبّر ناشطون ومناصرون لليسار عن فرحتهم وارتياحهم وقد بكى بعضهم.
وقال دليل دياب الموظّف في النقل اللوجيستي خلال تجمّع لـ"فرنسا الأبية": "ما زلت متأثّراً، الأمر لا يصدق، ثمّة أمل كبير في مستقبل فرنسا. ما يحصل تاريخي (..) إنه بمثابة تحرّر".