"لدى معظم فرنسا كراهية شخصيّة وعنيفة تجاهه... هو شابّ جداً، وسيمٌ جداً ولامعٌ جداً بالنسبة إلى الكثير من الفرنسيّين – في حمضِنا النوويّ أن نريد قطعَ رأس قائدنا".
هكذا يتذكّر جميل أندرليني من مجلّة "بوليتيكو" ما قاله أحد المنتمين إلى الحلقة الضيّقة للرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون حين كان يسافر معهم في زيارة إلى الصين السنة الماضية.
بالنظر إلى نتائج انتخابات الأحد، يبدو أنّ ماكرون تفادى إلى الآن حكم الإعدام السياسيّ. وعلى الأرجح، ليس عن طريق الصدفة.
"المكيافيلّيّ" الذي لم ينتحِر
قبل أيّام، وبالحدّ الأقصى أسابيع، كان الحديث في الإعلام الغربيّ يدور عن "انتحار" ماكرون؛ مقال فرانسوا بولو في موقع "إيلوسيد" يوم 12 حزيران (يونيو) مجرّد نموذج.
صباح الاثنين، تحوّل الحديث لدى بعض المحلّلين إلى خروج ماكرون من الانتخابات كـ "صانع ملوك". هذه هي رؤية الكاتب في "بلومبرغ" ليونيل لوران على سبيل المثال.
قد يكون خروج الرئيس الفرنسيّ بأقلّ الأضرار الممكنة، وهو تعبير ملطّف لأنّه حقّق أكثر من ذلك، مفاجئاً لكثيرين. لكنّه كان مفاجئاً فقط بمقدار ما نسي المراقبون مسيرة ماكرون الدراسيّة والسياسيّة.
تمحورت رسالة الماجستير للرئيس الفرنسيّ حول شخصيّة نيكولو مكيافيلّي (وهيغل). تالياً، لن يفتقر ماكرون إلى الكثير من الأفكار التي تساعده على النجاة السياسيّة. وسط غمرة العناوين التي تنبأت بانهيار الماكرونيّة خلال الفترة الماضية، قلّة خاطرت بالسباحة عكس التيّار. الكاتب السياسيّ دانيال فوبير تصدّر هذه القلّة، حين كتب في 17 يونيو مقالاً بعنوان "ماكرون يعرّف لوبان إلى مكيافيلّي".
سذاجة كبيرة
لاحظ فوبير في موقع "بروسلز سيغنال" أنّ تأثير مكيافيلي كان واضحاً على ماكرون منذ الصغر. طوال سنوات، ظنّ زوج بريجيت ترونيو أنّ المراهق كان مجرّد صديق لزوجته قبل أن يكتشف العكس. وبعدما اعتقد الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند أنّ ماكرون سيدعمه للرئاسة إذ عيّنه وزيراً للاقتصاد، كان ماكرون هو الذي أصبح رئيساً. بالتالي، تابع الكاتب، "سيكون من الساذج جدّاً الاعتقاد بأنّ قراراً مهمّاً كحلّ الجمعيّة الوطنيّة لم يكن قد دُرس بعناية، بأنّه ليس في مصلحة ماكرون، أو بأنّه لا يملك خطّة للأمام".
أيّ خطّة؟ باختصار، كانت "الفوضى" وفق فوبير. أشار إلى أنّ "التجمّع الوطنيّ" كان سيواجه مشاكل في الحكم تشبه ما حصل سابقاً في التاريخ الفرنسيّ، بسبب افتقاره للخبرة وموالاة "الدولة العميقة" لماكرون. بعد ثلاثة أعوام من إنهاك "التجمّع الوطنيّ"، يمكن أن يخرج ماكرون أقوى، كما حدث مع نابليون الأول والثالث.
من يهيّئ نفسه للأسوأ
من الملاحظ أنّ تلك النتيجة كانت أسوأ احتمال ممكن. ومن يهيّئ نفسه لأسوأ الاحتمالات يسهل عليه التعامل مع تبعات أخفّ وطأة. اليوم، حصد ائتلاف ماكرون (نحو 163 مقعداً) المرتبة الثانية لا الثالثة كما توقّعت غالبيّة استطلاعات الرأي، بينما فاز "التجمّع الوطنيّ" بزعامة مارين لوبان (143) بالمرتبة الثالثة بدلاً من الأولى. إن لم تكن هذه النتيجة كافية، فواقع أنّ إمكانيّة ادّعاء ماكرون تَمَكّنَه من إبعاد أقصى اليمين وأقصى اليسار عن الأكثريّة التشريعيّة المطلقة قد يكون أفضل إنجاز نسبيّ للرئيس الفرنسيّ.
صحيحٌ أنّ خسارة الكثير من المقاعد النيابيّة، كما كانت الحال مع ائتلاف "معاً" الرئاسيّ (أكثر من 70)، لا يعدّ نتيجة إيجابيّة في أوضاع طبيعيّة، لكن ما مرّت به فرنسا مؤخّراً لم يكن طبيعيّاً بأيّ مقياس. على صعيد موازٍ، تلعب التوقّعات دوراً كبيراً في رسم طريقة قراءة النتائج. بما أنّ الاستطلاعات منحت ائتلاف ماكرون أرقاماً سيّئة، كان يكفي للائتلاف أن يتجاوز تلك الأرقام ليكون أداؤه "إيجابيّاً". حتى تمتُّعُ "المحافظين" في بريطانيا بـ 121 مقعداً نيابيّاً عقب توقّع غالبيّة الاستطلاعات فوزه بما يقلّ عن 100 بعد الانتخابات الأخيرة أعطاهم بعض الدفع المعنويّ.
استراتيجيّة ماكرون
"جوهر الاستراتيجيّة"، كما يخبرنا الكاتب الأميركيّ روبرت غرين في "القوانين اليوميّة"، "ليس تنفيذ خطّة رائعة تتوالى عبر خطوات؛ إنّه أن تضع نفسك في مكان تملك خيارات أكثر من (خيارات) العدوّ".
كانت خيارات ماكرون متعدّدة، وقد أدخل ذلك في حساباته. إمّا أن يفوز "التجمّع الوطنيّ" ويُكشف ضعفُه في الحكم، وإمّا يفوز "السدّ الجمهوريّ" بالتحالف بين اليمين واليسار والوسط، لكن بشروط ماكرون. فقد رفض الأخير يوم الأربعاء مشاركة الحكم مع "فرنسا الأبيّة" قائلاً إنّ تحالف الطرفين (عبر انسحابات متبادلة في نحو 200 دائرة انتخابيّة) هو تكتيكيّ فقط. وحتى لو فازت "الجبهة الشعبيّة الجديدة" (حصدت نحو 188 مقعداً) بالأغلبيّة المطلقة، قام رهان ماكرون، بشكل منطقيّ، على تشتّت أحزاب وشخصيّات "الجبهة" إذ إنّ انضواء مكوّنات اليسار تحتها كان هو الآخر تكتيكيّاً، بعدما انفرط عقدها في السابق حين كانت لا تزال تحت مسمّى "نوب".
وقام بعض اليساريّين المستقلّين خلال حملتهم الانتخابيّة بإبعاد أنفسهم عن زعيم "فرنسا الأبيّة" جان لوك ميلانشون كي يتمكّنوا من جذب أصوات الوسطيّين. بينما كان البعض الآخر أقلّ ديبلوماسيّة حتى، كما حصل عندما طالب هولاند ميلانشون بـ "أن يصمت" إذا أراد خدمة "الجبهة الشعبيّة الجديدة".
وبينما يظهر "التجمّع الوطنيّ" و"فرنسا الأبيّة" الأقلّ قدرة على صوغ تحالفات واسعة بعد الانتخابات، يختلف الوضع إلى حدّ ما مع ماكرون الذي لا يزال قادراً نظريّاً على صوغ تحالفات مع يمين الوسط (الجمهوريّين) و/أو يسار الوسط (الاشتراكيّين والخضر).
لا يعني كلّ ذلك أنّ مشاكل فرنسا الداخليّة قد انتهت؛ على العكس. لكن على الأقلّ، بحسب جميل أدرليني، سيظلّ ماكرون "الشخصيّة المركزيّة في دراما السياسة الفرنسيّة" خلال المستقبل المنظور.