النهار

"ترامب الفرنسيّ"... هل تصمد وحدة اليسار مع ميلانشون؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
يتحدّث ميلانشون بثقة منقطعة النظير، وكأنّه لم يقرأ الأرقام.
"ترامب الفرنسيّ"... هل تصمد وحدة اليسار مع ميلانشون؟
مؤسّس حزب "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون يحتفل بعد صدور نتائج الانتخابات (أ ف ب)
A+   A-

بعد إعلان نتائج الجولة الأخيرة من الانتخابات التشريعيّة الفرنسيّة يوم الأحد، خرج مؤسّس حزب "فرنسا الأبيّة" جان لوك ميلانشون ليلقي خطاباً بمناسبة فوز ائتلافه العريض. حقّقت "الجبهة الشعبيّة الجديدة" التي تمثّل "فرنسا الأبيّة" أحد أركانها نحو 184 مقعداً، متفوّقة على الائتلاف الرئاسيّ (166) و"التجمّع الوطنيّ" (143).

 

أمكن أن تكون إطلالة ميلانشون على ناخبيه أمراً طبيعيّاً، لولا أنّ نبرته واستعجاله أثارا الكثير من الاستغراب لدى محلّلين، وبشكل أبرز، لدى حلفائه. تحدّث ميلانشون بثقة مفرطة كأنّه بات رئيساً للحكومة بفعل الأمر الواقع. وبدأ يحدّد شروطه على الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون.

 

تحت عنوان "النجدة، ميلانشون عائد"، سلّطت صوفي كوانيار في مجلّة "لوبوان" الفرنسيّة الضوء على "نبرته الحربيّة" ليلة الأحد: "يجب على الرئيس أن ينحني ويعترف بهذه الهزيمة" فهو "لديه السلطة والواجب لدعوة الجبهة الشعبيّة الجديدة إلى الحكم. هي جاهزة لذلك... ستطبّق برنامجها، لا شيء غير برنامجها، برنامجها كاملاً". حتى المقرّبون منه كرّروا كلامه "ببّغائيّاً"، بحسب كوانيار.

 

وبطيبعة الحال، طلب ميلانشون من رئيس الوزراء غبريال أتال "أن يرحل". إلى الآن، هو باقٍ موقّتاً بطلب من ماكرون، كي يحافظ "على الاستقرار".

 

هل قرأ الأرقام؟

قد تكون كلمات ميلانشون منطقيّة لو صدرت عن حزب أو ائتلاف فاز بالأغلبيّة المطلقة. ليس الأمر أنّ "الجبهة الشعبيّة الجديدة" بعيدة من هذه الأغلبيّة وحسب. حزب ميلانشون نفسه لم يفز بالعدد الأكبر من الأصوات بالمقارنة مع الأحزاب المنفردة الأخرى. لم يحقّق حتى المرتبة الثانية. حصلت "فرنسا الأبيّة" على 78 مقعداً تقريباً. حزب الرئيس الفرنسيّ الذي حاول ميلانشون فرض شروطه عليه، نال وحده نحو 99 مقعداً. بينما نال "التجمّع الوطنيّ" من دون حلفائه قرابة 125 مقعداً.

 
 
 

(أ ب)

 

لكنّ ميلانشون لم يبدُ متصلّباً تجاه الرئيس الفرنسيّ وحسب. هو تصرّف كقائد أوحد لليسار وركيزته الأساسيّة. الواقع أنّ أداء "فرنسا الأبيّة" ضمن التحالف الانتخابيّ الأوسع لم يكن استثنائيّاً. صحيحٌ أنّ حزبه فاز بالعدد الأكبر من المقاعد بالمقارنة مع الأحزاب الأخرى في الائتلاف، لكنّه لم يتصدّر بفارق ملحوظ. في مقابل مقاعده الـ 78، فاز "الحزب الاشتراكيّ" بـ 69 مقعداً. بينما نال "البيئيّون" 28. حتى مع دمج مقاعد "فرنسا الأبيّة" ومقاعد "الشيوعيّين"، يبقى يسار الوسط، لا أقصى اليسار، صاحب الوزن الأكبر في "الجبهة الشعبيّة الجديدة": 107 مقابل 87 مقعداً.

 

علاوة على كلّ ذلك، كان "الحزب الاشتراكيّ" هو الذي حقّق تقدّماً انتخابيّاً بنحو الضعف بينما ظلّت أرقام "فرنسا الأبيّة" شبه ثابتة. سنة 2022، حصدت "فرنسا الأبيّة" 75 مقعداً، و"الحزب الاشتراكيّ" 31 و"البيئيّون" 23 مقعداً. لقد كان تقدّم "الاشتراكيّ" تحديداً المساهمَ الأكبر في إحراز تحالف اليسار قفزة في عدد المقاعد من 151 إلى 184.

 

"ترهيب"

لاحظ أستاذ التاريخ وعلم الاجتماع السياسيّ الفخريّ في "معهد باريس للدراسات السياسيّة" مارك لازار كيف أنّه وبعد لحظات قصيرة على إعلان النتائج، استلم ميلانشون الحديث "ومنعَ المكوّنات الأخرى للجبهة الشعبيّة الجديدة من التدخّل". هو يريد "ترهيبَ" تلك المكوّنات لمنعها من القبول باقتراح صادر عن الرئيس. هدفُ ميلانشون، بحسب لازار، هو بقاء اليسار موّحداً "لكن بشروط برنامج الجبهة الشعبية الجديدة ومعها كرئيس جان لوك ميلانشون".

 

إلى الآن، لا تزال "الجبهة الشعبيّة الجديدة" صامدة، ووعدت بتقديم مرشّحها إلى رئاسة الحكومة قريباً (بحسب "الإشتراكيّ" خلال أسبوع). ما إذا كان ميلانشون سيقبل بأن يكون ممثّل الجبهة من خارج حزبه هو مثار تكهّنات، لكن يبدو بحسب بعض آخر الأنباء أنّه لا يزال يراهن، بعكس جميع حلفائه، على إمكانيّة أن يكون هو رئيس الوزراء المقبل. حتى لو نجحت الجبهة في إيصال مرشّحها إلى رئاسة الحكومة، ما من ضمانة بأن تستمرّ على تلاحمها إذ إنّ أرضيّتها لا تزال مهتزّة. هذا إلى جانب أنّ الامتعاض من شخصيّة ميلانشون ليس واضحاً في بعض أروقة "الجبهة الشعبيّة الجديدة" وحسب، بل أيضاً داخل حزب "فرنسا الأبيّة" نفسه.

 

إقالات واستقالات

ترى صحيفة "سود إنفو" البلجيكيّة الصادرة بالفرنسيّة أنّ ميلانشون يصبح معزولاً أكثر في الساحة اليساريّة. وتشير إلى أنّ النائب الذي انشقّ عن حزب "فرنسا الأبيّة" فرانسوا روفان قال إنّ ميلانشون "لن يصبح رئيس حكومة لأنْ لا الشيوعيّون يريدونه، ولا البيئيّون يريدونه، ولا الاشتراكيّون يريدونه. ولا أنا أريده أيضاً".

 

وكان ميلانشون قد حذّر روفان من أنّه سيخسر في دائرته بعد خروجه من صفوف "فرنسا الأبيّة". لكنّه فاز بمقعده في نهاية المطاف. يعدّ روفان من كبار مؤسّسي "الجبهة الشعبيّة الجديدة". واختلف مع ميلانشون بسبب "العبء" الذي يمثّله أمام حصد الأصوات. وبرزت أسماء أخرى في الأيام القليلة الماضية التي أعلنت انسحابها أو فصلها عن "فرنسا الأبيّة".

 
 
(أ ف ب)

 

 

كليمانتين أوتان التي انتُخبت في الدورة الأولى عن الحزب قالت ليل الأحد: "لقد فهمتُ جيّداً أنّني لم أعد جزءاً من المجموعة. لن أكون في هذه المجموعة أيضاً لأنّه، ويجب قول الأمر، برزت اختلافات، تعاني فرنسا الأبيّة كثيراً في تحمّل ألّا يكون الجميع مطواعين".

 

من جهته، وبعد استبعاده من الانتخابات، اتّهم النائب السابق ألكسي كوربيير ميلانشون بأنّه "انتقم" منه ومن النائبتين دانيال سيمونيه وراكيل غاريدو اللتين انتقدتا معه مسار "فرنسا الأبيّة". هذا مع العلم أنّ كوربيير كان مقرّباً جدّاً من ميلانشون. وبعدما وصف سلوكه بـ "الدنيء"، ذكّر كوربيير صديقه السابق بأنّ "الحزب السياسيّ التحرّريّ لا يعمل كشركة خاصّة حيث يطردُك رئيسُك لأنّه لم يعد قادراً على الإشراف عليك".

 

"ترامب الفرنسيّ"

لفتت صحيفة "لو موند" الفرنسيّة سنة 2018 إلى أنّ ميلانشون يتشارك مع ترامب تصوير في نفسه بأنّه "ضحيّة" المؤسّسة، وهو اتّهامٌ كرّره مسؤولون آخرون في الآونة الأخيرة مثل عمدة مونبولييه الإشتراكيّ الذي قال إنّ ميلانشون يشبه ترامب في تقويض الديموقراطيّة الفرنسيّة. جاء ذلك بسبب شكاوى حزبه المتكرّرة من عيوب في التصويت. ووصل الأمر بتصوير ميلانشون نفسه ضحيّة لـ "المؤسّسة" إلى حدّ اتّهام الإعلام بإطلاق "سيرك من محاكم التفتيش" بحقّه.

 

باستثناء عدد المقاعد التي حقّقتها "الجبهة الشعبيّة الجديدة" في الانتخابات، ما من أسباب كثيرة تدعو إلى الاحتفالات، وبشكل أقلّ إلى التبجّح. من جهة، لا تزال نسبة الأصوات التي حصدها أقصى اليمين هي الكبرى. من جهة ثانية، وقد يكون هذا الأمر هو الأسوأ، خسر اليسار الكثير من أصوات الطبقة العاملة في فرنسا التي يبدو أنّ قسماً كبيراً منها يتّجه نحو "التجمّع الوطنيّ".

 

تحتاج هذه النتائج إلى قراءة هادئة. طباع ميلانشون لا توحي بأنّه مستعدّ لذلك.

 

اقرأ في النهار Premium