باريس - شارل سابا
يتكرّر الحديث عند كل استحقاق متعلّق بانبثاق إحدى مؤسسات السلطة انتخاباً، أو محاولة إسقاطها انتفاضاً، بانقسام على أساس جغرافي بين سكّان المدن والريف. فمن الانتخابات التشريعيّة في كل من فرنسا وبريطانيا والرئاسيّة في الولايات المتحدة، مروراً بالانتخابات البلديّة في تركيا، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة، أو حتّى بالعودة إلى تشريح الأسباب الاجتماعية للزلزال السوري بعد عام 2011، يلاحظ التشابه في تصاعد الاستقطاب السياسي بين المدن والأرياف، مع التشديد على خصوصيّات كل دولة في الديناميّات المعبّر عنها، وخاصّية دعم الريف للمركز السياسي المحافظ في كل من إيران وتركيا.
ليس الاستقطاب هذا هو الأوّل في مجتمعاتنا المعاصرة، فالعالم كان شهد مثله في ذروة الثورة الصناعية في أواخر القرن التاسع عشر، إذ يشير الرائد في علم الاجتماع ماكس فيبر إلى أن هذه الثورة جعلت من المدن كيانات اقتصادية، وسياسية، وإداريّة، فقسمت بالتالي الميول السياسية بين مصالح مزارعي الأرياف من جهة، والعاملين في النظام الاقتصادي الجديد الذي تهيمن عليه الصناعة من جهة أخرى. وأتت الأجيال التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية لتنسى هذه الفجوة الجغرافيّة الطابع، ولكن الاجتماعية المضمون، بفعل اختراق الصراع الطبقي كلّ المساحات الجغرافيّة. إلّا أن الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 وانعكاساتها على ماليّة الدول وقدرتها على التنمية، عادت وأبرزت الفروقات بين المركز والطرف.
كيف ظهر ذلك في الانتخابات الأخيرة؟ وما هي مآلاته؟
نمو اقتصادي متمركز في المدن ومحيطها
تُظهر دراسة لمايكل كيني ودافيد لوكا أجريت لمصلحة مركز بينيت في جامعة كامبريدج قبل أربعة أعوام، وتناولت ثلاثين دولة أوروبية في الفترة الممتدة من 2002 إلى 2018، أن "الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الريفية هم أكثر احتمالية لأن يقترعوا لليمين الراديكالي، وأقل ثقة بالنظام السياسي، على رغم أنهم أكثر احتمالاً للمشاركة في آلياته من خلال التصويت".
وتشير الدراسة إلى أنه "على رغم أن مواقف هؤلاء تتدرّج بحسب السنّ والتحصيل العلمي والمهنة، فإنّ المكان الذي يقضي فيه الأفراد فترة تشكّل مواقفهم السياسية الأولى له تأثير كبير، وتؤكّد عبر الإحصاء، أن النمو الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي متمركز في التجمعات الحضرية والمناطق الريفية القريبة منها، دون تلك البعيدة".
فرنسا وبريطانيا والنظام الانتخابي
رغم تفوّق اليسار وعدم وصول اليمين الراديكالي في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة في كل من فرنسا وبريطانيا إلى الحكم، إلّا أن قراءة نتائج الدوائر الريفيّة ومقارنتها في كل من البلدين تشير إلى أن الموجة اليمينية الراديكالية الرافضة أداء المركز لا تزال آخذة في التصاعد، وأن النظام الأكثري في الدائرة الفرديّة كان الحاجز الرئيس أمام انعكاس هذا المشهد في الجمعيّة الوطنيّة ومجلس العموم.
ففي بريطانيا، خسر حزب المحافظين الحكم بعد 14 عاماً، وحصّته من الأصوات 24 في المئة، لمصلحة حزب العمل الذي حصل على 33 في المئة من الأصوات. وإذا كان العديد من رموز المحافظين قد خسروا في المناطق الريفية، بمن في ذلك الوزراء السابقون لشؤون البيئة والغذاء والشؤون الريفية، فإنّ مردّ ذلك يعود إلى تحوّل أصواتهم الكبير لمصلحة حزب الإصلاح البريطاني اليميني الراديكالي. وبسبب النظام الانتخابي ذاته، لم يحصد هذا الحزب أكثر من 4 نوّاب، رغم أنه حصل على 14 في المئة من الأصوات، فائزاً في إسيكس وشمال شرقي البلاد، حيث كان هناك دعم قوي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي فرنسا، حاز "التجمّع الوطني" اليميني الراديكالي ما يفوق الـ10 ملايين صوت في مختلف الدوائر، فيما لم يقترع لتحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" للأحزاب اليسارية سوى 7 ملايين فرنسي. ورغم ذلك، وبفعل النظام الأكثري في الدائرة الفرديّة، حلّ "التجمّع" ثالثاً من حيث المقاعد النيابية بعد "الجبهة" وتحالف "معاً" الماكروني الذي لم يحز سوى 6 ملايين صوت. ورغم الانسحابات المتبادلة بين "الجبهة الشعبية الجديدة" و"معاً"، تخطّى مرشّحو "التجمّع الوطني" نسبة الـ40 في مئة من الأصوات في مختلف الدوائر الريفيّة الطابع.
هذا لا يعني بالطبع أن الانقسام بين المدن والأرياف هو على شاكلة الأبيض والأسود، أو أن اليمين الراديكالي يصعد في الوتيرة ذاتها في كلّ الأرياف، أو يكرّر لازمة المناطق الريفيّة المهمّشة التي يلعب على وترها "التجمّع الوطني". لكنّه لا يمنع من القول إن ارتفاع النسبة في الأرياف هو ظاهرة عامّة هي أكثر من تجاذب قيمي حول الإجهاض، والموت الرحيم، والمثلية أو صراع هويّتي حول الهجرة والصفاء العرقي، بل هي تعبير صارخ عن قصور السياسات العامة في هذه المناطق، ومجانبتها الواقع وعدم إيفائها بالمطلوب.
تنمية الأرياف داء العولمة ودواؤها
لم تجد السلطات السياسية من سياسات عامة للتعامل مع أزمة الأرياف حتى الساعة، سوى المسكّنات الكلاسيكية الطارئة، من إنفاق على الخدمات العامة ودعم الدخل والنقل، في موازاة ارتفاع المديونية العامة وتناقص القدرة المالية لهذه الدول، فيما المشكلة هي أشدّ دهاءً. فقد أدّى عصر العولمة وانتقال التصنيع والزراعة المشبعة إلى الدول ذات الأجور المنخفضة إلى فقدان الوظائف في الريف، وزيادة معدلات البطالة، وخفض مستويات الدخل والتحول نحو السياحة الموسمية، وتقليص قدرة صغار المزارعين على المنافسة في الأسواق العالمية. ولم يجد الكثير من سكّان هذه المناطق خيارات سوى التدرّج من الاقتراض إلى الاعتراض، فالنزوح والهجرة.
لذلك، يجدر نظرياً بالحكومات الإفادة من الفرص الانتخابية الأخيرة، ومواكبة الخطوات الطارئة العاجلة باستراتيجيات طويلة الأمد، تجمع التنظيم المدني، والتحفيز الضريبي والتمويلي لريادة الأعمال، وقوانين العمل، والنقل العام، وإنتاج الكهرباء وتوزيعها وإدارة قطاع المياه والسياسات الصناعيّة والزراعية والتربويّة والصحيّة، بشكل يتراجع عن المنطق "اليعقوبي" المركزي، ويعزّز اكتفاء التجمّعات الصغرى خدمياً وتكاملها إنتاجياً على حساب توسيع المدن والشركات الكبرى إلى ما شاء الله.
وفي ظروف اليوم عوامل مساعدة على ذلك، لا عقبات وتحدّيات فقط، كبداية تفكيك سلاسل الإمداد الإنتاجي الطويلة عقب جائحة كوفيد وحرب أوكرانيا، ونموّ العمل والعلم والتسوّق عن بعد، إضافة إلى زيادة الاستثمار الحكومي في مقتضيات التحوّل الطاقوي.
فهل تتلقّف، في ذروة الثورة التكنولوجيّة، الأنظمة الاقتصادية - السياسيّة والمجموعات الكبرى فيها الحاجة إلى سياسات عامة تجعل من التنمية أكثر استدامة؟ أم تستمر بمراكمة احتكارات الثروة والسلطة، على غرار ما لحظه ويبر في ذروة الثورة الصناعيّة؟ وهل الأحزاب الشعبوية ما هي إلا وسيلة لإطالة عمر هذه الأنظمة عبر تنفيس احتقان المتضرّرين من خلال مطالب الدعم و"الدخل الأساسي الشمال"؟