النهار

النهار

لماذا خاطرت أوكرانيا بالتوغل في كورسك الروسيّة؟
جورج عيسى
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
أوكرانيا لا تزال قادرة على إحداث المفاجأة.
لماذا خاطرت أوكرانيا بالتوغل في كورسك الروسيّة؟
القوات الأوكرانية تقصف مدينة سودجا وهي تتقدم في كورسك الروسية (أ ب)
A+   A-

بينما كان العالم ينتظر الرد الإيراني على اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، وفي وقت كان يحاول أيضاً معرفة ما الذي فعله أمين عام مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو في إيران، شنت أوكرانيا هجوماً مفاجئاً في مقاطعة كورسك الروسية. بشكل أولي، يعد هذا الهجوم ناجحاً – في نقاط محددة.

 

المكسب الأول

في وقت شنت أوكرانيا توغلات سابقة في مناطق روسية، حدثت تلك التوغلات المحدودة عبر منظمتين شبه عسكريتين متواضعتي الحجم تتألفان بشكل غالب من مقاتلين روس: "فيلق المتطوعين الروسي" و"فيلق روسيا الحرة". هذه المرة، الأمور مختلفة. تشارك ألوية أوكرانية (بالحد الأدنى لواءان) في الهجوم على كورسك.

 

توغلت الألوية الأوكرانية بعمق يصل إلى 10 كيلومترات في نحو 72 ساعة وعلى أكثر من محور. تقديرات المساحة التي سيطرت عليها أوكرانيا قد تكون قريبة من 325 كيلومتراً مربعاً، بحسب بعض الخرائط الروسية. (ليل الخميس كان الحديث عن 430 كيلومتراً مربعاً). يعد ذلك لافتاً للانتباه عند إجراء مقارنات: في الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2024، سيطرت روسيا على نحو 400 كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية، أيضاً بحسب أرقام روسية.

 

ميزة ثانية

حققت أوكرانيا هذا التقدم بكلفة معقولة نظرياً. بالرغم من أن المعلومات الحالية عن عدد الخسائر الأوكرانية غامضة، توحي سرعة التقدم بأن الروس لم يفرضوا كلفة باهظة على المهاجمين. والأمر معكوس على الضفة الأوكرانية. تقول كييف إن روسيا تكبدت بين كانون الثاني (يناير) ونيسان (أبريل) نحو 83 ألف خسارة بين قتيل وجريح.

 
 
 

وربما كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر زلة لسان حجم خسائر بلاده في بعض محطات الحرب الأوكرانية، حين قال خلال مقابلة مع وسيلة إعلامية صينية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إن أوكرانيا خسرت 90 ألف جندي خلال هجومها المضاد (منذ حزيران 2023) وإن خسائرها قاربت 8 إلى 1 من الخسائر البشرية الروسية. وهذا يعني أن روسيا فقدت 11 ألف مقاتل تقريباً في أربعة أشهر. جاءت هذه الخسارة حين كانت روسيا في موقف دفاعي يعد أكثر ملاءمة لتجنب عدد مرتفع من الضحايا.

 

نجاحات أخرى

المكسب الثالث الذي حققته أوكرانيا هو قدرتها على خداع روسيا. يتطلب هجوم كهذا تركيزاً للجنود والمدرعات على الجانب الداخلي من الحدود (مقاطعة سومي)، لكن الاستخبارات الروسية فشلت في التقاط مؤشرات إما عن التمركز نفسه أو عن النوايا التي كمنت خلفه. أدى هذا الإخفاق إلى مكسب أوكراني رابع.

 

خلال تقدمها السريع، تمكنت القوات الأوكرانية من إجبار عدد كبير من الجنود الروس على الاستسلام، وقد انتشرت مشاهد لذلك على وسائل التواصل الاجتماعي. بلغ عدد الجنود الروس الذين وقعوا في الأسر أكثر من مئة مما دفع بعض المعلقين العسكريين إلى القول إن هذا الرقم يمثل أكبر عدد من الأسرى الروس الذين يسقطون بين أيدي الأوكرانيين في الحرب. قد يوجّه هذا الحدث الضربة المعنوية الكبرى التي تلقتها روسيا هذه السنة. وسيمنح ذلك أوكرانيا ورقة تفاوض في المستقبل للإفراج عن أسراها من السجون الروسية.

 

ماذا بعد؟

السؤال ملحّ وسابق لأوانه في آن. قبل التطلع إلى المستقبل، لا يستطيع المحللون الاتفاق على ما تريده أوكرانيا (الملتزمة بالصمت حالياً) من هذه العملية. هل تسعى إلى ضرب معنويات الشعب الروسي عبر القول إن رئيسهم عاجز عن حمايتهم، وفي الوقت نفسه، رفع معنويات الأوكرانيين؟ إذا كان ذلك صحيحاً فمن المرجح أن ينسحب الأوكرانيون سريعاً من المنطقة طالما أن الهدف تحقق.

 

ماذا لو كانت أوكرانيا تريد مبادلة مناطق تحتلها في روسيا بمناطق أوكرانية يحتلها الجيش الروسي عبر مفاوضات لاحقة؟ لو كانت هذه هي نوايا كييف فستكون المهمة صعبة. سيتوجب عليها بناء تحصينات في المنطقة وهو أمر يستغرق وقتاً. حتى مع افتراض النجاح في هذه المهمة، قد لا تتمكن القوات الأوكرانية من الصمود طويلاً تحت قصف المسيّرات وربما المقاتلات الروسية بما أن مرافقة الأصول الدفاعية الجوية للقوات المتقدمة أمر صعب. وعملية الإمداد الأساسية لاستدامة الوجود الأوكراني على الجانب الآخر من الحدود هي شائكة بطبيعتها.

 
 

ربما تسعى أوكرانيا إلى سحب الجنود الروس من قطاعات محددة في دونباس لتخفيف الضغط عن الجنود الأوكرانيين خصوصاً على محور بوكروفسك حيث يُسجّل التقدم الروسي الأسرع على الجبهات. حتى إعداد التقرير، ثمة مؤشرات متضاربة إلى إمكانية حدوث ذلك. فقد توقع بعض المحللين (من ضمنهم أوكرانيون) أن تكون روسيا قادرة على الدفع بجنود لتحرير كورسك من داخل الأراضي الروسية. لكن، وعلى ما لاحظه المحلل العسكري ميخايلو جيروكوف في حديث لـ"بي بي سي"، إن عدد القنابل الانزلاقية الروسية التي كانت تقوّض الدفاعات الأوكرانية تراجع في دونيتسك بعد التوغل (أعلن رئيس هيئة الأركان الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف يوم الأربعاء أن روسيا أوقفت التقدم).

 
بحسب "إيكونوميست"، قد يكون التوقع الأكثر منطقية هو بناء منطقة آمنة على الحدود شبيهة بتلك التي حاولت روسيا إقامتها شهر أيار (مايو) الماضي في خاركيف. ونقلت عن مصدر استخباري قوله إن أوكرانيا قد اطمأنت بفعل النجاح الأولي الذي "رمى روسيا في الشلل". لكن بحسب ما يقوله مصدر من هيئة الأركان العامة الأوكرانية، ستحرص كييف على عدم التوغل كثيراً في روسيا كي لا تكرر الخطأ الذي ارتكبته روسيا في بداية الحرب.

 

مخاطرة

المكاسب التي حققتها أوكرانيا في توغلها (باستثناء أسر الجنود) قد تكون موقتة. فالتوغل داخل مناطق العدو في مساحات مفتوحة لا يعني إحكام السيطرة عليها. مقابل كل ذلك، تخاطر أوكرانيا بإغضاب حلفائها الأميركيين الحذرين من أي تصعيد مفاجئ، بالتحديد، في وقت يركزون على تطورات الشرق الأوسط. لكن يبدو أن كييف تضع واشنطن أمام أمر واقع مفاده أنها لا تستطيع الوقوف مكتوفة والالتزام بالمحاذير الأميركية على أبواب عودة محتملة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض. المخاطرة الثانية وربما الأهم هي ذات طابع عسكري.

 

تعاني أوكرانيا من نقص مزمن في الجنود على الجبهات الأمامية ومن قدرة محدودة في تعبئة المزيد من المقاتلين. ربما كان الخيار الأكثر أماناً هو توجيه الألوية إلى دونيتسك بدلاً من الأراضي الروسية، مما يمنع تشتت، وربما خسارة، قوات ومعدات أوكرانية من جهة، والغضب الأميركي المحتمل من جهة أخرى.

 

لكن أوكرانيا تخوض حرباً وخوض الحروب من دون مخاطرة هو، في بعض الأحيان، مقامرة. سنة 1801، كانت مخاطرة نائب الأميرال هوراشيو نيلسون هي التي أكسبت بريطانيا معركتها ضد البحرية الدنماركية في ميناء كوبنهاغن... لا تحفّظ قائده السير هايد باركر. لقد ذكرت سجلّات البحرية الملكيّة تلك الحادثة باعتبارها "أشهر عصيان للأوامر". قد لا يطول الوقت لمعرفة ما إذا كان عصيان أوكرانيا للعقبات السياسية والميدانية سيكسبها ثماراً مشابهة أو تداعيات قاسية.