صباح الثلاثاء الواقع في السابع من آب (أغسطس) 2024، وخلافاً للتوقعات الأساسية عن المسار العام للحرب، شنّت أوكرانيا توغلاً برياً في مقاطعة كورسك الروسية، ما اعتُبر في البداية هجوماً محدوداً شبيهاً باختراقات سابقة لمجموعات روسية مناهضة لموسكو، تبيّن لاحقاً أنّه توغّل برّيّ واسع النطاق، وأكثر. لهذا السبب، كان التوغل مفاجئاً للروس والحلفاء الغربيين معاً وكانت له تداعيات محدودة... حتى الآن.
ألوية نخبوية... لا ميليشيات
شاركت في الهجوم ثلاثة ألوية أوكرانية على الأقل: اللواءان الآليان النخبويان 22 و88 واللواء الجوي 80. ليس اللافت للنظر فقط العدد الكبير للجنود الأوكرانيين المشاركين في التوغل أو قدراتهم القتالية المتمرّسة. بالاستناد إلى طبيعة الآليات العسكرية التي اصطحبوها معهم إلى المقاطعة، يمكن معرفة بعض النوايا الأوكرانية.
من المركبات القتالية المدرعة الأميركية والألمانية "سترايكر" و"ماردر" وصولاً إلى المركبات الهندسية وكاسحات الألغام وصواريخ "هيمارس" وأسلحة المورتر البعيدة المدى وأصول دفاعية أرضية، ما من شك كبير في أن أوكرانيا تريد إبقاء قواتها في المنطقة. بعبارة أخرى، ما جرى ليس مجرد هجوم أو توغل بل على الأرجح هو غزو بعيد المدى.
روسيا البطيئة
كان رد الفعل الروسي بطيئاً إلى بطيء للغاية. يوم الأربعاء، عقد مجلس الأمن الروسي اجتماعاً طارئاً بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين. كان رئيس هيئة الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف يتحدث عن "وقف" هجوم نحو ألف أوكراني وتكبيدهم خسائر كبيرة. طبعاً، كانت أرقامه خاطئة. تشير تقديرات غربية مختلفة إلى أن ما لا يقل عن 6 آلاف جندي أوكراني موجودون في المقاطعة، وقد يصل الرقم إلى 8 وربما 10 آلاف.
لم يكن الأمر بحاجة إلى خبير في قراءة لغة الجسد لمعرفة أن بوتين بدا مستاء من أداء القيادة العسكرية الروسية، أو بشكل أكثر صراحة، غير مصدّق لكلام غيراسيموف. أثبتت الأيام اللاحقة شكوك بوتين. عوضاً عن أن تهدأ الجبهة، استمرت عمليات الإجلاء، وظهرت مقاطع فيديو يتوجه عبرها سكان كورسك إلى الرئيس الروسي طالبين منه التدخل لحل الأزمة. وقال حاكم المقاطعة ألكسي سميرنوف إن أكثر من 120 ألف شخص هربوا من المناطق الحدودية منذ بداية التوغل.
ما هي المساحة المحتلّة؟
مضت أوكرانيا بعيداً في توغلاتها. قالت وزارة الدفاع الروسية إن قواتها اشتبكت مع المهاجمين في بلدتي تولبينو وأوشكي كولوديز، وهما تقعان على بعد 25 إلى 30 كيلومتراً من الحدود وفق "بي بي سي". ووضعت تقديرات أخرى التوغلات على بعد 40 كيلومتراً من الحدود. كذلك، سيطرت أوكرانيا بشكل جزئي على الأقل على بلدة سودجا، خصوصاً محطة نقل الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية. بينما يقول مراقبون أوكرانيون إن قواتهم سيطرت بالكامل على البلدة الحيوية الواقعة على بعد 530 كيلومتر جنوب غرب العاصمة.
مساء الاثنين، قال قائد القوات المسلحة الأوكرانية إن الجنرال أولكسندر سيرسكي إن قواته تسيطر على 1000 كيلومتر مربع من الأراضي الروسية. وأضاف: "الوضع تحت سيطرتنا".
(دبابة روسية قرب سودجا - أ ف ب)
بعد نحو أربعة أيام تقريباً على التوغل، بدا أن وتيرة الصور ومقاطع الفيديو عن قرى جديدة تحتلها أوكرانيا أقرب إلى التراجع. من جهة، ربما نجحت روسيا في عرقلة التقدم الأوكراني على المحور الجنوبي الشرقي من كورسك (عند مارتينسكا تحديداً)، ومن جهة أخرى، تحتاج أوكرانيا إلى عدد أكبر من الجنود لمواصلة التوغل شمالاً كما إلى تثبيت خطوط الإمداد أولاً قبل التفكير في التقدم أكثر. مع ذلك، لا يعني هذا الأمر على الإطلاق أن الهجوم توقف. وردت أنباء يوم الاثنين عن تقدم أوكراني في شمال غرب كورسك وصولاً إلى جنوب بلدة كورينيفو. وقال جندي أوكراني مشارك في التوغل يدعى "دنيس" لصحيفة "فايننشال تايمز" إنهم لا يزالون في وضع هجومي. وأضاف: "نتوغّل (إلى أماكن) أعمق".
مهمة روسيا ليست سهلة
لا تزال الفيديوهات التي تنشرها روسيا عن طرد القوات الأوكرانية محدودة. هي تركز كثيراً على المسيّرات التي تستهدف الآليات العسكرية الأوكرانية، لكن أعداد المقاطع التي تنشرها روسيا من الأرض قليلة. يمكن فهم بعض أسباب ذلك. تمكنت أوكرانيا من تحقيق صيد ثمين عبر ضرب القوافل الروسية التي كانت متجهة للمساعدة في التصدي للقوات المتقدمة.
Last night a Russian convoy in Rylsk, Kursk Oblast was heading to fight the recent Ukrainian incursion into the area was hit by a HIMARS strike causing a mass casualty event.
— War Tracker (@wartracker4) August 9, 2024
The strike was filmed by a Ukrainian reconnaissance drone and the aftermath was videoed by Russians… pic.twitter.com/cIHU3FdBbT
يظهر فيديو نشرته القوات الأوكرانية استهدافاً مباشراً لعدد من الشاحنات والآليات الروسية، قبل أن ينشر أحد المواطنين الروس على الأرجح مقطعاً ثانياً يبيّن حجم الدمار الذي تعرضت له القافلة وخصوصاً عدد القتلى في المركبات الروسية. ثمة مقطعا فيديو على الأقل لاستهدافات كهذه. هذا إلى جانب أن القوات الأوكرانية تستهدف بعض الجسور لعرقلة تقدم القوات الروسية التي تتحرك ضمن "عملية مكافحة إرهاب".
كيف حصلت المفاجأة؟
ثمة إجابتان يمكن أن تكونا متكاملتين. الأولى أن أوكرانيا خاضت هجوماً كاسحاً إلكترونياً في البداية. بحسب تقرير لمجلة "فوربس"، عطّل الأوكرانيون أولاً مسيّرات الاستطلاع الجوي لدى الروس مما مكنهم ثانياً من نقل أجهزة تشويش قصير المدى إلى الحدود لتعطيل شبكات الاتصالات الراديوية. بالتالي، لم يعد لدى الروس أهداف عسكرية واضحة لضربها. لاحقاً أدخل الأوكرانيون طائراتهم الخاصّة من دون طيار لاستهداف الخنادق، ثمّ تقدموا ونقلوا أجهزة التشويش معهم. وبحسب مقاطع فيديو أخرى، ضربت أوكرانيا عدداً من مواقع المراقبة على الحدود مع روسيا في تموز (يوليو) الماضي.
Russian DefMin releases footage of 'strikes on Ukrainian armoured vehicles' in Kursk border region.
— Viory Video (@vioryvideo) August 12, 2024
The ministry stated that intelligence specialists had detected the Ukrainian armoured vehicles, with the ZALA Lancet used to hit 'three units'. #Kursk #Russia #Ukraine… pic.twitter.com/KNCUIO7oOT
مع ذلك، ذكر تقرير لشبكة "بلومبرغ" نقلاً عن مصدر قريب من الكرملين قوله إن غيراسيموف والقيادة معه حصلا على تحذيرات استخبارية مبكرة عن تجمع أوكراني قرب الحدود مع كورسك لكن أحداً لم يبلغ الرئيس الروسي. بحسب المصدر، وصلت هذه المعلومات إلى وزارة الدفاع قبل نحو أسبوعين من التوغل. ربما تجاهل غيراسيموف التحذيرات – إن صح مصدر "بلومبرغ" – بسبب التصورات الواسعة الانتشار عن افتقار أوكرانيا إلى العدد اللازم من الكتائب للدفاع عن الحدود، ناهيكم عن شن هجوم إضافي. كان هذا التصور الذي استغلته أوكرانيا بالتحديد لمفاجأة الحلفاء قبل الأعداء. كذلك، نجحت أوكرانيا في الحفاظ على سرية خطتها بشكل تام.
ماذا بعد؟
يقول "معهد دراسات الحرب" إن الهجوم على كورسك سمح لأوكرانيا باستعادة زمام المبادرة في منطقة واحدة من الميدان. إلى أي مدى، هذا هو السؤال. بحسب وتيرة تطورات الأيام والساعات الأخيرة، ومع التلاشي المتوقع لحجم المفاجأة التي أصابت روسيا بالشلل، ربما تقترب القوة الهجومية لأوكرانيا من الوصول إلى ذروتها، في المدى المنظور على الأقل. يشير تقرير ثانٍ لـ"فوربس" أعده خبيرها العسكري ديفيد أكس إلى أن القوات الأوكرانية بدأت ترسّخ وجودها في المساحات التي احتلتها عبر حفر خنادق. والروس يقومون بالأمر نفسه.
"أن يعزز الطرفان مواقعهما لا يعني أن الأوكرانيين تخلوا عن التقدم. ولا يعني أن الروس لا يستطيعون شن هجوم مضاد – ودحْرَ الأوكرانيين إلى الحدود، 10 أميال بعيداً. لكنه يعني أن ترسيخ الاستقرار على خط الجبهة – واحتلالاً أوكرانياً طويل المدى لجزء من كورسك – هما على الطاولة".