النهار

معركتا كورسك 1943 و2024... مقارنات وتأمل
جورج عيسى
المصدر: "النهار العربي"
تختلف المعركتان بشكل كبير، لكن المقارنة تفرض نفسها
معركتا كورسك 1943 و2024... مقارنات وتأمل
معركة كورسك 1943، واحدة من أكبر معارك الدبابات في التاريخ (ويكيكومونز)
A+   A-

دفعته الخسائر المتنقلة إلى إعادة الانتشار والبحث عن استعادة زمام المبادرة. كان عليه أن يستدعي المزيد من الشباب الذين أعفوا من التجنيد في المرحلة السابقة كي ينخرطوا في المعركة. باتت مكاسبه، أو ما تبقى منها، على المحك. هذا هو المأزق الذي وجد نفسه فيه الزعيم النازي أدولف هتلر بعد الهزائم في ستالينغراد وموسكو والقوقاز. لقد خسر نحو مليوني جندي وكان عليه التعويض، ميدانياً ونفسياً. راهن على معركة جديدة، فكانت "عملية الحصن" أو "سيتاديل". بتعبير جغرافي، كانت معركة كورسك.

 

بعضٌ ممّا جرى قبل 8 عقود

بشكل تلقائيّ، جرّت معركة كورسك الحاليّة بين أوكرانيا وروسيا ذاكرة بعض المراقبين إلى معركة شبيهة خلال الحرب العالمية الثانية. بين كورسك 2024 وكورسك 1943، نحو 81 عاماً وربما 81 اختلافاً. في الواقع، وباستثناء الميدان – وهو اسم المقاطعة الواقعة في أقصى غرب روسيا على الحدود مع أوكرانيا – قد لا يكون هناك الكثير من نقاط التشابه. لكن للمقارنات التاريخية جاذبية تصعب مقاومتها. كانت معركة كورسك مفصليّة في الحرب العالمية الثانية، ومن الممكن أن تكون كذلك في الحرب الراهنة.

 

تلقى هتلر صفعة قويّة بين حزيران (يونيو) 1942 وشباط (فبراير) 1943 حين خسر معركة ستالينغراد وقرر جنراله فريديريك باولوس الاستسلام. أظهر ذلك أنّ جيشه ليس عصياً على الهزائم. في الوقت نفسه، تركت سلسلة المعارك بين النازيّين والسوفيات على طول خط الجبهة، جيباً بارزاً أو نتوءاً عسكرياً لمصلحة موسكو. كان هذا الجيب في كورسك وحولها بطول 240 كيلومتراً وعرض 160. أراد هتلر استعادة هيبة جيشه والسيطرة على خطوط السكك الحديدية في المنطقة. علاوة على ذلك، كان هتلر يعتقد أن معركة ثانية ستزرع الشرخ بين موسكو وشركائها الغربيين لأنهم كانوا مترددين في فتح جبهة ثانية لتشتيت النازيين. ورغب القادة النازيون بضرب ذلك النتوء سريعاً قبل أن يستطيع السوفيات التعافي من خسائرهم في الشتاء ويشنوا هجوماً مضاداً سريعاً من الجنوب أو الشمال.

 
 
 

لقد كان النازيون يمضون قدماً نحو ما سيصبح لاحقاً، بحسب البعض على الأقل، "أكبر معركة دبابات في التاريخ" وحتى "أكبر معركة منفردة في التاريخ" وستندلع شرارتها في 5 تموز (يوليو) 1943. حشد الألمان للمعركة نحو 780 ألف جندي و2900 دبابة و7400 مدفع و1800 مقاتلة. بالمقابل، حشد السوفيات نحو ضعف هذه الموارد البشرية والآلية على حد سواء. كانت مشكلة هتلر الأساسية تردده في إطلاق المعركة بسبب تأخر الإمدادات والأسلحة الجديدة المنتظرة مثل دبابة "بانتر" مما منح السوفيات القدرة على حشد الموارد وتأسيس ما لا يقل عن ثلاثة خطوط دفاعية. أدرك السوفيات موقع الهجوم منذ آذار (مارس) من سنة 1943 فحرموا النازيين من عنصر المفاجأة. لهذا السبب، تمكنوا من خداع الألمان عبر إخفاء دباباتهم ونصب أهداف مزيفة لاستنزاف القذائف النازية.

 

بالتالي، خسرت الخطة التكتيكية القاضية بدق أسافين جانبية في النتوء إمكانية التعويض عن مكامن نقص الموارد لدى النازيين. ولم يساعد هتلر أيضاً أنّ الحلفاء شنوا بعد نحو أسبوع هجوماً على صقلية ممّا أجبره على سحب بعض القوات إلى الغرب. ما كان ينبغي أن ينهي منصّة أماميّة للسوفيات تحوّل إلى لحظة حاسمة أدركت فيها موسكو أنّه يمكن دحر النازية. بعكس معركة ستالينغراد التي استمرت أكثر من ستة أشهر، دامت معركة كورسك أقل من شهرين، وعملياً نحو أسبوع واحد، حين بدأ هتلر استدعاء بعض قواته. لكن حتى لو لم يحصل الهجوم على صقلية، كان من الصعب على برلين تحقيق انتصار بالنظر إلى الفارق العددي لمصلحة السوفيات إضافة إلى تحسن خبرتهم وصناعاتهم العسكرية. لكن هذا لا يعني أن المعارك كانت سهلة على السوفيات، لأن خسائرهم الإجمالية كانت أكبر من خسائر أعدائهم. على المستوى البشري مثلاً، خسرت موسكو نحو 008 ألف جندي مقابل 200 ألف لدى برلين، بحسب بعض التقديرات.

 

ماذا عن اليوم؟

ثمة شبه استحالة لوجود مقارنة كاملة بين حرب طاحنة ومباشرة خاضها نحو مليوني جندي وأخرى محدودة وخاطفة قد يخوضها عشرات الآلاف كحد أقصى. مع ذلك، لم تبدد القوات الأوكرانية عنصر المفاجأة حين أطلقت معركتها ضد كورسك. تمكنت كييف من حجب خطتها عن حلفائها الغربيين إلى حد تام، بحسب تصريحاتهم. كان دافعها تجنب مواجهة "لا" حاسمة. لكن الهدف الأهم من السرية، بحسب سخرية مبطنة للقائد الأعلى الأسبق للقوات الأميركية في أوروبا بن هودجز، كان عدم وصول المعلومات الأوكرانية المبلّغة للعواصم الغربية... إلى موسكو نفسها. أُخذت القوات الروسية في كورسك على حين غرة إلى درجة أن القوات الأوكرانية حصلت على المئات من الأسرى الروس. بعكس الحرب العالمية الثانية، لم تتمكن موسكو من بناء خطوط دفاعية عميقة لحماية المنطقة من الهجوم لأنها لم تتوقعه من الأساس.

 
 
 

(بعض الدفاعات المسماة "أسنان التنين" بالقرب من كورسك - أب)

 

وعلى عكس معركة كورسك قبل 8 عقود، لا تحمل المعركة الحالية، على الأقل بحسب ما يتبين حتى الآن، طابعاً استراتيجياً. لا تهدف كييف إلى قلب مسار الحرب والوصول إلى موسكو كما فعلت برلين في الحرب العالمية الثانية. قد يكون جل ما تطمح إليه حالياً مبادلة بعض الأراضي الروسية المحتلة بأراض أوكرانية أخرى إلى جانب إضعاف إبطاء أو وقف التقدم الروسي في شرق البلاد. مع ذلك، هي أرادت توجيه رسالة إلى الغرب مفادها أنها لا تزال قادرة على الفوز بالحرب إذا قبل الحلفاء بمنحها الأسلحة المناسبة، والضوء الأخضر لاستخدامها في الأماكن المناسبة داخل روسيا.

 

وفي وقت لا تزال روسيا متمتعة بالتفوق العددي في القوى البشرية العاملة، ربما تراهن أوكرانيا على بطء القيادة الروسية في نقل جزء من قواتها الشمالية (نحو 50 ألفاً) إلى كورسك لوقف هجوم ما بين 6 إلى 10 آلاف مهاجم. عملياً، يظهر أن الرهان صحيح لغاية اليوم، إذ لا تزال أوكرانيا تتوسع في كورسك، ولو بشكل أبطأ، بحسب "معهد دراسات الحرب". ويبدو أن هناك رهاناً أوكرانياً آخر أيضاً.

 

رأت الباحثة في الشؤون الروسية في "مركز كارنيغي" دارا ماسيكوت أن أوكرانيا ربما لاحظت إمكانية لتوليد صراعات داخلية وتبادلاً لتحميل المسؤولية بين مختلف المجموعات التي تتولى حماية المنطقة ضمن "عملية مكافحة الإرهاب" مثل "جهاز الأمن الفيدرالي" و"الحرس الوطني" وبعض القوات الشيشانية والروسية. هذا إلى جانب أن ماسيكوت لم ترَ لغاية عرض تحليلها تأسيس قيادة مشتركة لقطاعات عسكرية خضعت حديثاً للتعديل مما يضفي عقبة عملانية أخرى أمام روسيا لصد الهجوم.

 
 
 

(الروس يقصفون أهدافاً أوكرانية - أب)

 

لكنّ كلّ ذلك لا يحلّ مشكلتين أساسيّتين لأوكرانيا: ما إذا كان هجومها على كورسك سيسحب ما يكفي من القوات الروسية المتقدمة ببطء لكن بثبات في دونيتسك، وما إذا كان باستطاعتها في المدى المتوسط تجنب هزيمة عسكرية في كورسك قد تلغي مكاسبها المعنوية والإقليمية السابقة. مع أن هجوم كورسك رفع معنويات الجنود الأوكرانيين، ووضع الروس أمام واقع أن بلادهم تتعرض للغزو للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، قد لا تتحمل كييف ضربة معنوية أخرى ناجمة عن مخاطرة كهذه، بخاصة إذا كانت الهزيمة دموية.

 

تفاؤل مزدوج؟

إذا كان للروس والأوكرانيين أن يفكّروا بكورسك 2024، فقد يجدان شيئاً من بواعث التفاؤل. يرى كلا الطرفين في نفسه حاملاً للواء صاحب الحق سنة 1943 (شارك جنرالات أوكرانيون الروس في الدفاع عن كورسك ضد النازية مثل كيريل موسكالينكو وسيرغي رودينكو). لهذا السبب، سيتذكر الطرفان أن شهر آب (أغسطس) من تلك السنة حسم المعركة لمصلحة المدافِعين.

 
 
 

مهما تكن نقاط التشابه بين المعركتين مختلفة لجهة قياس حجم تأثير كورسك 2024 على مسار الحرب بشكل عام، يمكن توقع أن تدخل معركة كورسك الثانية كتب التاريخ، كما حصل مع المعركة الأولى، ولو ضمن فصول مختلفة.

 

اقرأ في النهار Premium