قبل أسابيع قليلة، بدا أن الروس والأوكرانيين قد وصلوا بشكل متفاوت إلى ذروة قوتهم الميدانية تقريباً، مما فسّر بشكل محتمل بعض الإشارات الصادرة عن الطرفين حيال عدم القبول الأولي بالتفاوض. شكّل ذلك نبأ ساراً للصين.
فهي لا تزال طرفاً يمكن الاعتماد عليه في أي مفاوضات مستقبلية بين موسكو وكييف. أجرى الموفد الصيني الخاص لي هوي جولات مكوكية عدة بين مختلف العواصم الغربية والعالمية لبلورة حل مشترك. كما أن نهاية الحرب نفسها قد تخفف الضغط المفروض على بكين والمتمثل في إيجاد توازن صعب بين علاقاتها مع موسكو من جهة وأوروبا من جهة أخرى.
لكن التوغل الأوكراني المفاجئ في منطقة كورسك الروسية قادر على خلط بعض الأوراق. بيّن الغزو أن أوكرانيا قادرة على شن هجمات معقّدة مما قد يدفع الغرب إلى تقديم دعم جديد لها لتشن هجوماً مضاداً آخر سنة 2025 إذا فاز الديموقراطيون بالانتخابات. بالحد الأدنى، قد تضعف الضغوط الأميركية المحتملة على كييف لتسريع بحثها عن مخرج ديبلوماسي للحرب. يعيد هذا التحول بكين مجدداً إلى المربع الأول تقريباً.
"المبادئ الثلاثة"
انتظرت الصين نحو أسبوع على بدء التوغل لتدلي بموقف رسمي عن الهجوم. يوم الاثنين الماضي، دعا ناطق باسم وزارة الخارجية الصينية "جميع الأطراف" إلى الامتثال لـ "المبادئ الثلاثة" لخفض التصعيد: "لا توسيع للميدان، لا تصعيد للقتال، ولا صب للزيت على النار".
لم يختلف التصريح الصيني الصادر يوم الاثنين 12 آب عن الخطاب الرسمي العام تجاه الحرب بين روسيا وأوكرانيا منذ 24 شباط (فبراير) 2022. حافظت بكين على خطاب شبه محايد دعت فيه الأطراف إلى التهدئة وحل النزاع بطرق سلمية. لكن ذلك لم يمنعها من دعم جارتها الشمالية حين وجدت مصلحة متبادلة كما كانت الحال عبر مواصلة شراء موارد الطاقة منها، وربما عبر دعمها ببعض السلاح بحسب الاتهامات الأميركية وهي اتهامات تنفيها بكين.
مراجعة حسابات؟
ما حصل منذ 6 آب 2024 وهو تاريخ انطلاق غزو أوكرانيا لكورسك، يمكن أن يكون مختلفاً من وجهة نظر صينية، عما أعقب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022. فالحرب الآن بات تدور على أرض شريك قديم وقّعت معه الصين وثيقة "صداقة بلا حدود".
في مقابلة مع "تايمز راديو"، قال المخطط السابق في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والضابط الاستخباري السابق الحائز على "رتبة الإمبراطورية البريطانية" فيليب إنغرام إنه لا يستبعد أن يفقد الرئيس الصيني شي جينبينغ الثقة بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. ويشير إنغرام إلى أن شي ربما يتساءل عمّا إذا كان من الآمن مواصلة استثماراته في روسيا ودعمه الضمني لها.
هذه الأسئلة، وإن لم تكن أكيدة، تبقى معقولة. تلاحظ بكين أن القوات الأوكرانية لم تتقدم سريعاً في كورسك وحسب بل صمدت هناك لفترة أكثر من المتوقع وعلى مساحة قد تقرب من ألف كيلومتر مربع. من جهة ثانية، هي لاحظت بشكل مرجح أيضاً أن بوتين لم يكلف ضابطاً في الجيش الروسي بدحر المهاجمين. بدلاً من ذلك، لجأ إلى خدمات شخص من خارج القيادة العسكرية التقليدية وهو حارسه الشخصي السابق وأمين مجلس الدولة ألكسندر ديومين. وهذا يعني، بحسب أستاذ الأمن الدولي في جامعة برمنغهام ستيفان وولف، أن بوتين لا يثق بجيشه. بالتالي، لن يكون مستغرباً أن تكون ثقة الصين بقوة روسيا المستقبلية متزعزعة.
عوائد متواضعة على الاستثمار
كانت استفادة الصين من الغزو الروسي لأوكرانيا، في حال وُجدت، متواضعة إلى حد بعيد. سمح الغزو وما تلاه من عقوبات غربية بشراء بكين موارد الطاقة الروسية بأسعار مخفضة، وباستنزاف الترسانة العسكرية الأميركية، بشكل جزئي على الأقل. لكن المصاعب كانت واضحة على الضفة الأخرى من المشهد.
وضع الغزو بكين في موقف صعب لأنها تشدد في سياستها الخارجية على احترام وحدة أراضي الدول كما أنها ترتبط أيضاً مع كييف بعلاقات قديمة. ومن آثار الحرب أيضاً تعزيز العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية وهو يأتي على حساب النفوذ الذي تملكه بكين في بيونغ يانغ.
كذلك، لم يصبح حلف شمال الأطلسي أكبر بعد غزو أوكرانيا وحسب، لكن يبدو أيضاً أن شراكاته تتعزز أكثر في غرب الهادئ. ليس من قبيل الصدفة أن يخرج الناتو بوثيقة جديدة للمفهوم الاستراتيجي في صيف 2022 وقد وضعت الحلف في إطار جزء لا يتجزأ من الجهود العابرة للأطلسي من أجل مواجهة التحديات العسكرية والاقتصادية والصناعية للصين.
تغيّر دينامية
لا يزال مبكراً إطلاق حكم على المفاعيل الطويلة المدى لتوغل أوكرانيا في كورسك لكن المؤشرات الأولية لم تغب عن تحليلات بعض المراقبين الصينيين. في حديث إلى صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية، قال الباحث المشارك في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية يانغ جين إن التطورات في كورسك تقترح أن الجيش الأوكراني لا يزال يتمتع بإمكانات استراتيجية قوية نسبياً وهو قادر على تعبئة عدد كبير من القوات لشن هجوم مفاجئ. وأضاف أن ذلك تسبب بتغيير ملحوظ في الديناميات بين الدولتين المتجاورتين.
إذاً روسيا الآن في موقف دفاعي. ربما تنقلب الأمور مجدداً إذا واصل الجيش الروسي تقدمه أكثر في دونيتسك كما هو متوقع. لكن "تغير الدينامية" بين الدولتين قد يكون مكلفاً لاستقرار روسيا على المدى الطويل. بعد الانتخابات الرئاسية الروسية، وفي حين بدا الكرملين واثقاً أكثر بقوته على قلب الحرب لمصلحته في أوكرانيا، تعرضت روسيا لاختراق أمني كبير تمثل بالهجوم الإرهابي على قاعة للحفلات الموسيقية في إحدى ضواحي موسكو. أن تشعر الصين بالقلق حالياً من التطورات في كورسك أمر متوقع.