اكتسبت نتائج انتخابات الأحد في ولايتي سكسونيا وتورينغن شرق البلاد، بعداً معبّراً في البنية السياسية لجمهورية المانيا الاتحادية والتي تتغير تدريجياً، بعد أن ضرب تسونامي انتخابي مؤيد لحزب البديل من أجل المانيا اليميني المتطرف باقي الأحزاب التقليدية بحصوله على نحو ثلث أصوات الناخبين، مستفيداً بذلك من تململ حوالي 5 ملايين ناخب هناك من أداء الحكومة الاتحادية. وبينت النتائج ضمور شعبي للحزب الديمقراطي الليبرالي الشريك الأصغر في الائتلاف الحاكم، فيما تخطى كل من الاشتراكي والخضر نسبة 5 % المطلوبة بفارق بسيط جداً، وهذا ما دفع الزعيمة المشاركة للبديل اليس فايدل إلى وصف ما تحقق بـ"الفوز التاريخي".
ويمكن مما تقدم استخلاص العديد من الاستنتاجات ومنها أن الأحزاب التقليدية باتت تواجه صعوبة في إقناع الناس بحلولها لمشاكلهم، وهناك قناعة في الشرق بأن "البديل" قادر على اتخاذ قرارات صائبة تخدم طموحاتهم. وتظهر الأرقام أن البديل لم يعد حزباً احتجاجياً، بل وسع حضوره وبات يتهيأ لتسلم السلطة بعدما دغدغ بأطروحاته مشاعر الناخبين في قضايا باتت تشغلهم، وأهمها الاجابات عن سياسة اللجوء واللاجئين ومكافحة الجريمة المنظمة والعدالة الاجتماعية والمعاشات التقاعدية وغيرها.
من جهة ثانية، وبحكم أن جميع الأطراف السياسية أعلنت في أوقات سابقة رفضها التعاون مع اليمين المتطرف، يرجح أن تكون محادثات تشكيل أي ائتلاف حكومي بالغة الصعوبة، لا سيما بعدما أضحى الأخير أقوى قوة في تورينغن (32,8%)، ونيله أكثر من ثلث مقاعد برلمان ولاية سكسونيا بنسبة 30,6%. أي أنه بات يملك "الأقلية المعرقلة" في برلماني الولايتين. وهذا يعني أن التعديلات القانونية أو التعيينات في مناصب قضائية في الولاية لم تعد ممكنة من دون موافقته.
إلى ذلك، جعلت نتائج الانتخابات في كلتا الولايتين "تحالف سارة فاغنكنشت" الحديث العهد والمصنف يساراً شعبويا "بيضة القبان" في البرلمانين بعدما حل ثالثاً بنسبة 14% تقريباً، وقد يتشكل ائتلاف لم يختبر في أوقات سابقة، خصوصاً أن الديموقراطي الليبرالي خسر تمثيله في الولايتين وتراجع الخضر بشكل دراماتيكي إذ نال فقط 5,1 % في سكسونيا وخرج من برلمان تورينغن (3,2%). ومن المفترض أن تكون فاغنكنشت على تماس مع أي محادثات استكشافية لأي ائتلاف حكومي مرتقب. وهنا، تطرح تساؤلات عما إذا كانت فاغنكنشت تريد زيادة حضور حزبها والاستفادة من النقمة لدى المواطن على السلطة والاستمرار في مراكمة النقاط في استطلاعات الرأي حتى موعد الانتخابات البرلمانية العامة العام المقبل.
أما المسيحي الديموقراطي، أكبر أحزاب المعارضة في البوندستاغ، فقد حافظ على حضوره القوي 31,9 % في سكسونيا، وقد يكون زعيمه فريدريش ميرز بدأ يتلمس خطواته الأولى للترشح إلى منصب مستشار بعد الانتخابات العامة 2025، لاسيما أن حزبه يتصدر الاستطلاعات على مساحة البلاد. هذا في وقت يعتقد أن الأمر قد يتطلب المزيد من التبصر والتشاور أولاً مع زعيم الحزب الاجتماعي المسيحي في بافاريا الشريك الأصغر في الاتحاد المسيحي ماركوس سودر. وبما أن حزب ميرز لم يتصدر النتائج في ولاية سكسونيا إلا بفارق ضئيل (1,3%) عن البديل وقد يتعين عليه إجراء محادثات مع تحالف سارة فاغنكنشت.
أما في تورينغن، فإن الوضع أكثر تعقيداً لأن المسيحي الديموقراطي، وباعتباره ثاني أقوى قوة (23,6%) ليس بامكانه الاتكال على الاشتراكي لأن حضوره بات ضعيفاً (6,1%) في برلمان الولاية، وعليه أن يضم الى الاشتراكي حزب اليسار (13,1%) مثلاً الذي تعاون معه سابقاً.
صفعة لحكومة إشارات المرور
وعن مدى تأثير الاضرار البالغة التي طالت الحكومة الفيدرالية ومطالبة حزب البديل المستشار اولاف شولتس بالاستقالة والدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة، رأى الباحث السياسي توماس برغمان، في حديث إلى "النهار"، أن الائتلاف الحاكم تعرض لعقوبة جماعية من الناخبين نتيجة الغضب الشعبي ضده وأصبح الأمر أكثر مرارة على الائتلاف، مشيراً إلى أنه كان هناك الكثير من القضايا المثيرة للجدل التي أثرت على توجهات الناخبين وأعطت قوة دفع للبديل وتحالف فاغنكنشت على حساب الأحزاب الأخرى، ومن بينها أن وزيرة الداخلية اكتشفت أخيراً وبعد هجوم زولينغن الارهابي أنه يمكن ترحيل مرتكبين مدانين إلى أفغانستان، وأصبحت تؤيد مراقبة الحدود التي سبق أن أعلنت أنها غير مجدية. وهذا ما سيعرّضها لضغوط كبيرة، من دون استبعاد أن تكون مهددة بانتفاضة إذا ما تكرست النتائج نفسها في انتخابات ولاية براندنبورغ.
وأضاف برغمان أنه بعد استنفاد كل الجهود وتراكم الالتزمات المالية الضخمة على برلين، وفي مقدمها على الأمن بعد حرب روسيا ضد أوكرانيا والتوجه لاعادة تسليح الجيش والانفاق الدفاعي للناتو ودعم أوكرانيا بالأسلحة، تكسر المحرمات وتفرض قواعد جديدة للحد من الانفاق ورفع مكابح الديون، وأهمها مثلاً على المزايا الاجتماعية لـ"لاجئي دبلن" غير الملزمة ألمانيا أساسا باستقبالهم. وعلى حكومة شولتس أن تكون قادرة على استخدام ما تبقى لديها من وقت لتصحيح المسار وأخذ المخاوف على محمل الجد ومواجهة المشكلات، وهذا أمر مرغوب فيه. وبالنسبة إلى العديد من الناخبين كان افتقار تحالف إشارات المرور الحاكم للنقد الذاتي بمثابة حافز إضافي لمعاقبته في صناديق الاقتراع.
ولم يتردد نائب رئيس الديموقراطي الليبرالي فولفغانغ كوبيكي، في تعليق له على منصة "اكس"، في الاشارة إلى أن نتائج الانتخابات أظهرت أن الحكومة الفيدرالية فقدت شرعيتها، والناس بات لديها انطباع بأن الائتلاف الحاكم يضر بالبلاد. في المقابل، لم يجد الأمين العام للاشتراكي الديموقراطي كيفن كونهرت، ورغم الأداء الضعيف لأحزاب التحالف الحكومي، من مبرر لنهاية مبكرة للائتلاف في برلين، وقال في حديث إلى القناة الثانية "زد دي اف": "لقد تم انتخابنا لتحمل المسؤولية ومتابعة الأمر حتى النهاية".