إذا كان انتصار "البديل من أجل ألمانيا"، أو بالأحرى تتالي انتصاراته عند كل استحقاق، يحيّر صنّاع السياسة في برلين، ومعهم على الأرجح نظراءهم في بروكسل، فالمشكلة بحسب البعض تكمن في الحائرين أنفسهم.
ما بيّنته نتائج الانتخابات المحلية في تورينغن وساكسونيا (شرق) يوم الأحد كان متوقعاً: استمرار تقدم "البديل" على حساب الائتلاف الثلاثي الحاكم بقيادة المستشار أولاف شولتس، وصمود حزب "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" بزعامة فريديريش ميرتس.
يبدو أن تآكل الوسط بسبب عجزه عن تلبية هواجس الناخبين هو أحد أبرز أسباب الصعود المتسارع لـ "البديل". لكنه قد يساهم أيضاً في صعود اليسار الشعبوي الذي يشاطر "البديل" بعضاً من أجندته، وإن كان يرفض تشارك الحكم المحلي معه.
أرقام لافتة
لم تنتج الانتخابات تقدماً كبيراً لـ "البديل" وحسب، بل أيضاً لحزب "بي إس دبليو" الجديد والمعارض للهجرة ولدعم أوكرانيا. حصد هذا الحزب المنشق عن أقصى اليسار والذي تأسس مطلع هذه السنة 11.8 في المئة من الأصوات في ساكسونيا و15.8 في المئة منها في تورينغن. يُلاحَظ أيضاً أن الأصوات التي حصل عليها "بي إس دبليو" في تورينغن هي أعلى من مجموع أصوات الائتلاف الثلاثي هناك (13) وقريبة نسبياً من مجموعها في ساكسونيا (17).
بالنسبة إلى "البديل"، هو حل أولاً في تورينغن (32.8) تلاه حزب "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" (23.6). وحصد "الديموقراطي المسيحي" المرتبة الأولى في ساكسونيا (31.9) إنما بفارق صغير عن "البديل" (30.6).
اللافت أيضاً أن "البديل" وحده حصل على نسبة أصوات تفوق مجموع ما حصدته الأحزاب الثلاثة في الائتلاف الحاكم، بنحو الضعف تقريباً، في كلتا الولايتين. إذاً، تفشل جميع الوسائل الدعائية والسياسية لمحاصرة "البديل"، حتى أنها تطلق ردة فعل عكسية. بالتوازي مع إقبال كثيف على صناديق الاقتراع بلغ نحو 74 في المئة، يصعّب توصيف جميع الذين صوتوا لـ "البديل" بأنهم "نازيون" أو "متطرفون" أو متعاطفون معهم.
شيء يشبه "ترياق كلينتون"
يلاحظ رودريغو باليستر من موقع "بروسلز سيغنال" أن الأحزاب والشخصيات التقليدية في الاتحاد الأوروبي تستخدم مصطلحات وبائية للتحدث عمن تصنفهم باليمين المتطرف، مثل "الحزام الوبائي"، في محاولة لمنع هذا اليمين من الانتشار. ولم تتوقع هذه الأحزاب بحسب سرديتها الخاصة، أن يتحول "المرض الشعبوي" إلى "جائحة"، بحسب الكاتب نفسه.
لم تساعد سياسات "المؤسسة" على كبح جماح "البديل". في نهاية المطاف، ثمة سابقة أخرى شبيهة في التاريخ الأميركي الحديث يمكن أن تفسر قليلاً ما يحدث في أوروبا عموماً، وألمانيا خصوصاً. أحد أسباب فشل وصول المرشحة الديموقراطية السابقة إلى الرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون، بحسب رأيها، هو استخدامها عبارة "سلة من البائسين" لتوصيف "نصف" مؤيدي دونالد ترامب خلال حملتها الانتخابية. كانت حينها تقصد العنصريين لكن ذلك لم يخدمها.
والتوصيفات المتلاحقة لمؤيدي من يفترض أنهم من "اليمين المتطرف" في أوروبا بأنهم من "النازيين" أو حتى بأنه يجب "حجرهم" بشكل أو بآخر، هو أكثر ازدراء من كلمات كلينتون. يأتي ذلك في وقت تتألف القاعدة الشعبية الناخبة لـ "البديل" من تيارات عدة غير متجانسة بحسب تقرير لـ "دي دبليو" شهر أيار (مايو).
لا يعني كل ذلك أن "البديل" يسهّل كثيراً على نفسه مهمة رفع صفة اليمين المتطرف عنه، إذ غرق عدد من قادته في فضائح متنقلة من بينها التخطيط لترحيل ملايين الألمان من أصول مهاجرة. ورئيس الحزب في تورينغن بيورن هوكه استخدم شعارات نازية أكثر من مرة. وسبق أن طردت مارين لوبان حزب "البديل" من ائتلاف "الهوية والديموقراطية" الأوروبي بسبب دفاع أحد مرشحيه عن بعض النازيين.
نوستالجيا؟ ... فكروا مجدداً
في محاولات "المؤسسة" مهاجمة "اليمين المتطرف" بشكل عام، هي تنتهي أحياناً بشكل غير مقصود عند مهاجمة تيار من الناخبين ينفر فقط من سياسات برلين بشأن الهجرة والتحول الأخضر السريع وربما النمو القائم على أجور منخفضة في المناطق الفقيرة، كما يقول الكاتب ديفيد برودر في مجلة "نيوستيتسمان". وما يلاحظه برودر، كما آخرون، هو أن "البديل" لا يمثل تياراً مدفوعاً بالنوستالجيا بشكل عام، وإنما بالمستقبل.
فقد صوّت 38 و31 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً لـ "البديل" في تورينغن وساكسونيا على التوالي، مع ارتفاع في الإقبال بنسبة 11 في المئة لدى ناخبي هذه الفئة العمرية. وهذا ما مكّن "البديل" من أن يصبح الحزب الأكثر شعبية بين الألمان الشباب.
ما يعنيه ذلك أن "البديل" باقٍ في المستقبل المنظور. بالرغم من سلسلة الفضائح التي هزت قادته، يبدو أن الحزب لا يزال قادراً على جذب مجموعات ممّن يشعرون بالتهميش إليه، وفي طليعتهم الشباب. يعود ذلك على الأرجح لأسباب متشابكة عدة مثل الأزمة في قطاع الإسكان والتضخم واستخدام "البديل" وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر انتشاراً لمخاطبة الشباب مثل "تيك توك" و"إنستغرام" مع توجيه رسائل مبسطة. والأخيرة سمة أساسية في التخاطب لدى الأحزاب الشعبوية.
ترفض مراسلة "سبايكد" في ألمانيا سابين بيبلر-سباهل فكرة الإشارة إلى أن تورينغن هي المنطقة التي شهدت أول نجاح للنازية، كمحاولة لتفسير سبب تصويتها اليوم بهذا الاتجاه. فالمنطقة كانت أيضاً معقلاً للديموقراطيين الاجتماعيين في القرنين التاسع عشر والعشرين كما أوضحت. بالتالي، هي ترجع أيضاً أسباب صعود "البديل" إلى الفشل الحكومي.
قد يخيب أمل شولتس... مجدداً
بعد صدور نتائج الانتخابات، قال شولتس إن ألمانيا "لا تستطيع، ويجب ألا تعتاد على ذلك". إذا كان شولتس قد صُدم من نتائج الانتخابات الأخيرة، فقد يكون هناك مجال لخيبات مستقبلية أخرى. على ما يبدو، إن البلاد (على الأقل في شرقها) تعتاد على مثل هذا المسار، تماماً كما اعتادت عليه دول أوروبية أخرى بما فيها إسبانيا والبرتغال.
في تعليق على عدم تأثير التحذيرات من "النازية" على خيارات قسم من الألمان، تقول "بوليتيكو" بشكل معبّر: "إن العديد من الناخبين قد توقفوا ببساطة عن الإصغاء".