توغّل الجيش الأوكراني في منطقة كورسك الروسية، ففاجأ موسكو، كما فاجأ واشنطن وبروكسل وباقي المنظومات التي تمدّ كييف بالدعم السياسي والعسكري. وقال الجنرال فيليب بريدلوف، وهو ضابط سابق في سلاح الجو الأميركي والقائد الأعلى السابق لقوات حلف "الناتو" في أوروبا، لصحيفة "كييف إندبندنت" إن أوكرانيا "لم تطلب مساعدتنا ولا مشورتنا حين نفّذت الهجوم، ويبدو أنها حققت نجاحاً ميدانياً لا يمكن التغاضي عنه".
ألعاب خفّة
في تحرّك عسكري يصفه بعض المراقبين الغربيين بأنه يماثل "ألعاب الخفّة التي يمارسها مدّعو القدرات السحرية"، احتلت أوكرانيا مساحة واسعة من الأراضي الروسية في هذا العام، مقارنة بما احتلته روسيا في أوكرانيا. لكن، بعيداً قليلاً من التباهي الأوكراني باختراق الأراضي الروسية للمرّة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، اللازمة التي يرتاح الأوكرانيون وبعض الأوروبيين لسماعها في كل مرّة، وبعيداً أيضاً من تعداد آثار هذه الخطوة العسكرية في تأليب الرأي العام الروسي على "العملية العسكرية الخاصة" التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 22 شباط (فبراير) 2024، والتعويل على ارتفاع منسوب "الغضب وعدم الرضا" بين الروس من 18% في 12 تموز (يوليو) إلى 28% في 28 آب (أغسطس) المنصرمين، بحسب استفتاء أجرته "أندرستاندينغ وار"، ثمة سؤال مشروع: "ماذا يمكن عملية كورسك أن تثمر، كيف توظف هذه الثمار في مسار الحرب أو السلم؟".
في أكثر من مناسبة، ومنها ما هو موثق في قناة "تلغرام" الخاصة بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال إن ما احتله "الأوكرانيون الشجعان" في كورسك هو إضافة قيّمة جداً إلى صندوق التبادل، "ندخرها إلى مرحلة آتية". بكلام أبلغ تعبيراً: لا يبالغ أصحاب النصر في كورسك في القول إنه فصل من فصول الحرب حتى إخراج آخر روسي من أرض أوكرانيا، إنما يدرجونه فصلاً من فصول السلم الآتي.
لكن، يُحسب لورقة كورسك التفاوضية حسابٌ مهمّ على مائدة المساومات، بشرط وحيد: أن يصل الأوكرانيون إلى هذه المائدة وقد حافظوا على نصرهم ووسّعوا نطاقه بالسيطرة على مناطق أهم استراتيجياً مما يحتله الروس في تلك اللحظة. حينها، يمكن زيلينسكي أن يُباهي أوروبا وأميركا بأنه استطاع أن يُنجز نصراً ما من دونهما، وأن موت آلاف الجنود لم يذهب أدراج الرياح.
لكن القائد العسكري الأوكراني أوليكساندر سيرسكي يقول إن التركيز اليوم على تحصين المناطق التي احتلها الجيش، أي أن لا نية أوكرانية للاستيلاء على المزيد من الأراضي الروسية، في تبرير يأتي بعد فشل الجيش الأوكراني في التقدّم نحو بيلغورود. وهذا يقلّل قليلاً من إمكانية التوظيف السياسي لهذه العملية العسكرية، بانتظار أي تبدّل ميداني.
أرضٌ مقابل أرض
لكن، في ميزان الربح والخسارة، يبدو أن التفاوض بمبدأ "الأرض مقابل الأرض" قد لا يصبّ في صالح زيلينسكي على المدى البعيد، نظراً للتقدّم الذي يحرزه الروس في دونباس، ونظراً أيضاً إلى أن بوتين يقول اليوم إن في العجلة نحو المفاوضات "ندامة"، بعدما استبق غريمه الأوكراني محادثاتٍ لوقف النار كانت مقرّرة في العاصمة القطرية الدوحة، بالهجوم المفاجئ على كورسك.
هذا ما دفع الروس إلى التصلّب أخيراً في رفض أي مفاوضات من أي نوع، وهذا ما دفع ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، إلى الدعوة لضمّ أوديسا وخاركوف ودنيبرو ونيكولاييف، وكييف وما بعد كييف، قائلاً على قناته بتطبيق "تلغرام": "فليدرك الجميع أن هذه الحرب لن تتوقف إلّا عندما نرى أنها يجب أن تتوقف، وأن ما حققناه مقبول ومفيد لنا"، علماً أن القيادة العسكرية الروسية تدرك أن احتلال أي مدينة من هذه المدن يعني تدميرها دماراً شاملاً. كذلك، يرفع نبرة هجومه أعلى قليلاً في حواره السريع مع شبكة "سي أن أن" الأميركية، حين يهدّد قضاة المحكمة الدولية الذين دعوا إلى القبض على بوتين في أثناء زيارته الأخيرة إلى منغوليا، بأن "حياتهم لن تساوي حينها أكثر من هذه القطعة (القذرة) من الورق".
ما فعلته "موقعة كورسك" نفسي أكثر منه ميداني. فتصدّع الجبهة في الدونباس والتقدّم الروسي المتسارع هناك، وتضاؤل الإمداد الغربي بالسلاح والعتاد، زادا من إحباط القيادة الأوكرانية، فكان عليها البحث عن أي انتصار ممكن وسريع، ما دام الغموض يلفّ مسار الانتخابات الأميركية، وما دام دونالد ترامب، الذي يملك حظوظاً عالية بدخول البيت الأبيض، قد أعلن أن في جعبته مفاجأة لروسيا وأوكرانيا، وهو من وعد بإنهاء الحرب في 48 ساعة. فهل كان خيار كورسك صائباً؟
خطوةٌ حمقاء
يصف السياسي الأميركي جون ميرشماير عملية كورسك بأنها "خطوة حمقاء" (a foolish move). بحسبه، العامل الرئيسي الذي يحدّد النصر في أي حرب استنزاف هو نسبة الضحايا في طرفي النزاع، وليس الاستيلاء على الأراضي، مخالفاً بذلك آراء القيادات العسكرية في البنتاغون والناتو.
ويضيف ميرشماير: "نسبة الخسائر في هجوم كورسك تصبّ في صالح روسيا بشكل حاسم، لسببين: الأول، تسببت الحرب في سقوط عدد قليل نسبياً من الروس، لأن الجيش الأوكراني اجتاح فعلياً أراضي غير محمية؛ والثاني، حين تنبّهت موسكو للهجوم، شنّت غارات جوية قوية على القوات الأوكرانية المهاجمة، فتكبّدت خسائر كبيرة".
وبحسبه، ما يجعل هذا الهجوم خطوة حمقاء فعلاً هو سحب كييف وحدات من النخبة القتالية من الخطوط الأمامية في شرق أوكرانيا، حيث الحاجة إليها هناك ماسّة فعلياً، لاستخدامها في غزو كورسك، "وبذلك، تميل نسبة الضحايا غير المتوازنة على جبهة شرق أوكرانيا لصالح روسيا أيضاً". ويختم بالقول: "هذه خطوة حمقاء إلى درجة أنها فاجأت الروس أنفسهم".
خط التماس حول دونيتسك صامد منذ عام 2014، لكن الوضع تبدّل منذ كورسك. وإذا سقطت مدينة بوكروفسك بيد الروس، يصبح طريقهم مفتوحاً وآمناً حتى الحدود. وبذلك، يكون بوتين قد ثأر هنا من زيلينسكي في كورسك، فينصرف الروس إلى إخراج الأوكرانيين بشكل نهائي من المنطقة. ولن يكون حينها أمام زيلينسكي إلّا تدعيم مواقعه الكورسكية من دون أي جدوى ميدانية أو سياسية، إنما ليؤكّد للغرب، ولحلف الناتو المتردّد في قبول عضوية بلاده، أن هذه المغامرة الميدانية كانت مجدية فعلاً.