حين أعلن وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في 5 آذار (مارس) الماضي عن تقديم فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية، استقالتها من منصبها، تنفّس بعض المسؤولين الروس في الكرملين الصعداء. فنولاند كانت، بعين البروباغاندا الروسية، واحدة من ألدّ أعداء موسكو، لأنها واحدة من قلّة تعرف روسيا معرفةً دقيقة، حتى أنها لم تخفِ يوماً إعجابها بالثقافة الروسية، وهي التي قرأت تشيخوف وتولستوي ودوستويفسكي باللغة الروسية التي تتقنها.
زاد هذا العداء بعد دخول روسيا إلى أوكرانيا في 22 شباط (فبراير) 2022، إذ كانت نولاند رأس حربة في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في وجه "العملية الخاصة" التي أرادها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خاطفة، وها هي مستمرة بعد عامين ونصف العام.
اليوم، تزامناً مع التبدلات العسكرية بالهجوم الروسي المضاد في كورسك، ومع مطالبة كييف بالسماح لها بضرب أهداف في روسيا بالصواريخ الغربية، تعود نولاند لتثير الصخب بتأكيد اتهامٍ وجّه إلى رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بوريس جونسون، بإجهاض مسعى سلمي لوقف الحرب في أوكرانيا، بعد شهرين من ابتدائها، كان يمكن أن يوفّر على البلدين هذه الخسائر الجسيمة في الأرواح.
في لقاء مصوّر أخير بُثّ في منصة "يوتيوب"، تسلّط نولاند الضوء على مسألة لفّها الغموض في حرب شعواء يخيّم عليها تعتيم ديبلوماسي منيع، وهي محادثات السلام الروسية – الأوكرانية التي أقيمت في اسطنبول في نيسان (أبريل) 2022. تقول نولاند في حديثها: "نعم، كانت ثمة مسودّة اتفاق على طاولة المفاوضات، لكن الدول الغربية نظرت إلى الوضع العسكري حينها، بعد شهرين من ابتداء الحرب، ورأت الفشل الروسي العسكري الذريع في السيطرة على أوكرانيا، ووصلتها أخبار الغارات الأوكرانية على أرتال الدبابات المرصوصة في مناطق مكشوفة تمتد مئات الأميال، فلم تنلْ مسألة السلام حينها أي استحسان"، ما يضفي الكثير من الصدقية على نظرية تقول إن بعضاً من أنصار أوكرانيا في الغرب، وفي مقدّمهم جونسون بحسب "غارديان" البريطانية، أفشلوا هذه المبادرة التي ربما كانت قد أنهت الحرب حينها، ووفرت على الروس والأوكرانيين آلاف القتلى، غير خراب المدن الأوكرانية.
قبل الطريق المسدود
ربما لم تُفشِ نولاند سراً من أسرار السياسة الخارجية الأميركية، لكن اعترافها هذا يؤكّد ما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نافتالي بينيت قد كشفه مواربةً في 4 شباط (فبراير) 2023، في لقاء مصور بُثَّ أيضاً على منصة "يوتيوب"، قال فيه إن الغرب حرم أوكرانيا فرصةً للسلام، وما أفصح عنه السياسي الأوكراني دافيد أراخاميا صراحةً، حين نسبت إليه صحيفة "دايلي صباح" التركية قوله إن الوفد الروسي إلى تلك المفاوضات في اسطنبول "وعد كييف بالسلام مقابل الحياد"، أي مقابل ضمان عدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، أو الاتحاد الأوروبي.
أضاف أراخاميا، وكان أحد مستشاري الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: "عدنا من اسطنبول، فزارنا بوريس جونسون في 9 نيسان (أبريل) 2023 في كييف على عجل، وقال: ’بوتين مجرم حرب يجب قتاله، لا التفاوض معه‘، وبعد ثلاثة أيام من مغادرة جونسون كييف، قال بوتين علناً إن محادثات السلام مع أوكرانيا وصلت إلى طريق مسدود".
تقول نولاند إن الأوكرانيين طلبوا النصيحة الأميركية لاحقاً بشأن الاستمرار في الحرب، وكان واضحاً للجميع أن بوتين علق في الشروط التي فرضها للسلام مع أوكرانيا، بشأن حيادها، ونزع سلاح الجيش الأوكراني، والتي لا يمكن أن ترضى كييف بها، "وبدأ بعضهم داخل أوكرانيا وخارجها يتساءلون إن كانت الصفقة التي تعرضها موسكو في تلك المفاوضات ملائمة... وفي تلك المرحلة توقفت المفاوضات نفسها، وعادت الكلمة إلى الميدان".
مَن هم؟
مَن هم هؤلاء "البعض" خارج أوكرانيا الذين تحدثت عنهم نولاند؟ الجواب الحقيقي عن هذا السؤال مؤجّل إلى حين تفشي الدول أسراراً عفا عليها الزمن، لكن مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تستبق ذلك بالحديث عن طلب كييف ضمانات أمنية أميركية – روسية كي توافق على وقف الحرب، إلّا أن الأميركيين لم يعرفوا بهذا الأمر إلّا لاحقاً، واستخدم بوتين ورجاله في الكرملين "مراراً تصريحات أراخاميا ليلوموا الغرب في مسألة انهيار المحادثات التي ربما أوقفت الحرب حينها، وفي إظهار تبعية أوكرانيا لحلفائها الغربيين".
ويضيف سامويل شاراب وسيرغي رادشينكو في "فورين أفيرز" أن أراخاميا كان يشير إلى مشكلة حقيقية، "إذ وصف الاتفاق بأنه إطار متعدد الأطراف يتطلّب استعداد الغرب للانخراط ديبلوماسياً مع روسيا، والنظر في توفير ضمانة أمنية حقيقية لأوكرانيا، ولم يكن أي من الأمرين أولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها في ذلك الوقت".
ربما لم تكن أوكرانيا قادرة على عقد أي اتفاق مع الروس لا يحظى بدعم غربي، لكن الواضح في الأمر أن ما أفشته نولاند يضفي الصّدقية على ما حُكي عن تسوية بين روسيا وأوكرانيا كانت ممكنة في اسطنبول بعد شهرين فقط من اندلاع الحرب، إلّا أن الغرب أجهضها.
تقول مجلة "ناشيونال إنترست" الأميركية إن الرّوس فقدوا حتى 8 أيلول (سبتمبر) 2024 نحو 620 ألف قتيل، وتتوقّع أن يقفز هذا الرقم إلى 700 ألف قتيل بحلول نهاية العام الجاري. في الجانب الآخر، لا أرقام مثبتة لعدد القتلى الأوكرانيين إلّا في موقع "ستاتيستا" الذي يقول إن 11,520 أوكرانياً قتلوا منذ بداية الحرب وحتى 31 تموز (يوليو) الماضي، وجرح 23,640 آخرين.
قد لا يكون جونسون المتّهم الوحيد في هذه المسألة، وقد يكون البحث في هذا الأمر درساً أكاديمياً حقيقياً في أن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى، وبمصير دول أخرى.