تتمتع ألمانيا بأحد أفضل أنظمة إعادة تدوير النفايات في العالم، ولم تصل البلاد إلى هذا التطور من فراغ، بل من خلال التخطيط والابتكار الذي يُستتبع دائماً بتنظيم حملات إرشاد لرفع مستوى الوعي لدى المواطنين بأهمية الفرز السليم للنفايات، وعادة ما تلتزم البلديات وكبريات الشركات في قطاع بيع المواد الغذائية بالتجزئة بها، كما شركات صناعة إدارة النفايات التي تستخدم الأنظمة الحديثة في عمليات إعادة التدوير. والهدف واحد، وهو تحفيز أكبر عدد من المواطنين على فرز المزيد من القمامة بطريقة أفضل لأن الفصل الصحيح للنفايات يعد شرطاً أساسياً لإعادة تدوير التغليف بكفاءة، وبالتالي حماية المواد الخام المهمة والمناخ والبيئة، فضلاً عن خلق اقتصاد دائري أكثر استدامة في البلاد.
مصدر للمواد الخام
ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الفدرالي، بلغ معدل إعادة التدوير في البلاد نسبة 70,1%، وهذا ما يضع ألمانيا في المرتبة الأولى في الاتحاد الأوروبي. ويشمل مصطلح إعادة التدوير استخراج المواد الخام من النفايات ومعالجتها لاستخدامها في منتجات جديدة وكوقود طاقة، وتفيد الأرقام بأنه تم استخدام 11,8% من النفايات لإنتاج الطاقة، أي تم حرقها في محطات تحويل النفايات إلى طاقة واستخدامها في توليد الكهرباء.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر إعادة تدوير المعادن كالنحاس والألومنيوم والصلب بمثابة مصدر مهم للمواد الخام، فضلاً عن معدلات إعادة التدوير العالية خاصة في مواد مثل الورق والكرتون والزجاج وغيرها، إذ تصل إلى حدود 94% من الألومنيوم و90% من الورق والكرتون والزجاج 84% والتغليف البلاستيكي 56%، كما أنه وفقاً لجمعية الحفاظ على الطبيعة "نابو" تتم إعادة تدوير حوالي 60% من نفايات العبوات البلاستيكية.
وأفاد آخر تحديث لإحصاءات المكتب المذكور بأن صناعة إعادة التدوير حققت في عام 2021 مبيعات بلغت 19,2 مليار يورو، وهذا ما يعادل 40% من إجمالي مبيعات صناعة إدارة النفايات. وتعمل 508 شركات من القطاع الخاص في إعادة التدوير وتوظف حوالي 35 ألف شخص.
الاقتصاد الدائري
ولتقدير مستويات تأثير التدوير وخدمته للاقتصاد الدائري، تفيد التقارير الرسمية الألمانية بأنه من إجمالي نفايات التغليف الخاصة، أي الجمع من المستوعبات الصفراء والحاويات الزجاجية والورقية والبالغة 5,9 ملايين طن، من المفترض أن تتم إعادة تدوير معظمها (70%). ويتم سنوياً تلف ما مجموعه 400 ألف سيارة، أي ما يعادل 450 ألف طن من الحديد ويعاد تدويره ليستخدم في مجالات عدة، فضلاً عن أكثر من مليار طن من الأدوات الكهربائية و212 ألف طن من البطاريات القديمة.
ويهدف الاقتصاد الدائري إلى تحسين الموارد وتقليل الاستهلاك باستخدام المواد الخام بأكبر قدر من الكفاءة، إذ يتم الحفاظ على اقتصاد مستدام، ويتراوح بين استخراج المواد الخام من خلال تصميم المنتجات والإنتاج والتجارة والاستهلاك، حتى يتم إغلاق الدورة من خلال إعادة الاستخدام وإعادة التدوير. وهذا يشمل أيضاً مسائل توريد المواد الخام والمشتريات والتصميم البيئي وتجنب النفايات.
ومن وجهة نظر الخبير فولف كاراس، الباحث في المواد المصنعة والخبير البيئي، فإن التغليف المصنوع من المواد الأحادية البلاستيك مثل البوليبروبولين أو البوليثيلين مثالي للاستخدام.
وليست زيادة معدل التدوير في ألمانيا والاتحاد الأوروبي بهذه السهولة، لأن القوانين التي كانت مرنة نسبياً تحولت منذ عام 2022 ومن خلال النصوص القانونية الجديدة إلى التشدد في إعادة تدوير ما لا يقل عن 63% من العبوات البلاستيكية مثلاً، ومن الأمثلة التي أُطلقت بالفعل إعادة تدوير زجاجات "بي أي تي" التي تستخدم لمرة واحدة والتي يجب أن تتكون من 25% من المواد المعاد تدويرها اعتباراً من عام 2025، وفي عام 2030 تنبغي زيادة الحصة إلى 30%. وبتوجيهات من الاتحاد الأوروبي، يجب بحلول 31 كانون الأول (ديسمبر) 2025 إعادة تدوير ما لا يقل عن 65% من كل نفايات التغليف في الاتحاد الأوروبي، ويجب تحقيق معدلات إعادة تدوير للمواد، بينها مثلاً 25% من الخشب و50% من البلاستيك والألومنيوم و70% من كل من المعادن الحديدية والزجاج، كما إعادة تدوير 75% من الورق والكرتون.
آليات إعادة التدوير
وعن آليات العمل المتبعة لإعادة التدوير، لا سيما أن السياسة البيئية للاقتصاد الدائري تقوم على مواصلة تطوير إدارة النفايات بأولوية قصوى، قال الناشط في إحدى الجمعيات البيئية في منطقة برينكوم كريستوف ريشتر إنه قبل الوصول إلى التدوير فإن الانطلاقة تكون بجمع النفايات من المستوعبات الصفراء والأكياس الصفراء المخصصة لفرز الكرتون والبلاستيك من المنزل والتي توزع مجاناً على السكان، والتي عادة ما تُجمع كل أسبوعين وفقاً لجدول سنوي معروف من سكان كل منطقة في الولايات الألمانية. وبعدها تبدأ عمليات فرزها تلقائياً في مصانع إعادة التدوير، وتكون الخطوة الأولى باستخدام نفاثات الهواء وتكنولوجيا الليزر والأشعة تحت الحمراء وأحزمة الوزن وماكينات الاهتزاز، مشدداً على أنه لا يمكن إعادة تدوير المواد إلا إذا أمكن فصل المادة بحسب نوعها، ومبيناً أنه يصار إلى غسل البلاستيك النقي أولاً، على أن تتم استعادة المواد الخام من النفايات التي يتم تفتيتها إلى رقائق ليتم صهرها ومعالجتها لتتحول في النهاية إلى مواد معاد تدويرها، وهذا جزء أساسي من الاقتصاد الدائري، أي إعادة استخدام الموارد بدلاً من هدرها.
ومن الجدير ذكره، أن أي عملية استغناء عن أغراض ومفروشات وأدوات كهربائية في ألمانيا تتطلب من صاحب أي منزل أو مستأجر ملء استمارة يحدد فيها نوعية القطع والمواد المكونة منها والتي يريد التخلي عنها، ليحدد له لاحقاً موعد من البلدية يخوله رفعها إلى الشارع جانب المنزل أو المبنى، على أن تُنقل قبل يوم من الموعد المحدد وبعد الساعة السادسة مساءً، ويحق لكل مقيم في مسكن اعتماد هذه الآلية بالمجان مرة واحد سنوياً. علاوة على ذلك، تنتشر في كل الضواحي مراكز ضخمة تابعة للبلديات يمكن للأفراد تسليم الأغراض المراد رميها مقابل مبلغ مالي زهيد، بينها مثلاً أغصان وأوراق الأشجار، إلى مخلفات ترميم المنازل والأدوات الكهربائية والبطاريات والألبسة وغيرها، وتوضع كل فئة منها ضمن مستوعبات حديدية ضخمة.
وتستفيد ألمانيا من عمليات تدوير قطع تالفة أخرى غير الزجاج والورق، بينها إطارات السيارات التي يتم فرمها لتستخدم في تصنيع الأرضيات العشبية لملاعب كرة القدم والحدائق أو لتصنيع الحقائب وغيرها، كما أن القطع البلاستيكية الهالكة يتم تحويلها إلى حبيبات تصنع منها مثلاً أوعية بلاستيكية للاستخدام الخارجي.
تصدير النفايات
وفي نهاية المطاف، وبما أنه لا يمكن إعادة تدوير كل المواد والنفايات، ونظراً إلى وجود معايير بيئية أقل وأكثر مرونة في بلدان أجنبية معينة، تعمد ألمانيا إلى التخلص منها وتصديرها، وبخاصة إلى آسيا وأفريقيا. وفي هذا الإطار، تفيد البيانات بأن ألمانيا رفعت صادراتها من النفايات في عام 2023 بشكل ملحوظ.