تقاس المعارك العسكرية بنتائجها النهائية. لا يمنع ذلك محاولة تحليل مسارات تلك المعارك قبل الوصول إلى خواتيمها. في هجوم أوكرانيا على كورسك، لا تزال الصورة غير مستقرة، وربما قادرة على إحداث بعض المفاجآت.
بعد نحو ثلاثة أسابيع على الهجوم، وصل التوغل إلى مداه الأقصى مع احتلال أوكرانيا نحو 1300 كيلومتر مربع من الأراضي الروسية. وبالرغم من نجاح الغزو عسكرياً، كانت نتائجه الأخرى في تلك الفترة أكثر التباساً، وربما تميل نحو السلبية.
من بين أهداف الغزو المفترضة، برز وقف التقدم الروسي المطّرد نحو مدينة بوكروفسك التي تشكل عقدة مواصلات في دونيتسك. أملت كييف أن تسحب روسيا جزءاً من قواتها هناك لدعم جبهة كورسك. ليس أن الهدف لم يتحقق وحسب، بل زحف الروس بشكل أسرع نحو البلدة. لكن فجأة، تباطأ الهجوم على بوكروفسك. علاوة على ذلك، حملت كورسك مؤخراً أنباء سلبية للروس.
هجوم جديد
قبل أيام، اعترف الأوكرانيون بأن الحرب في كورسك أضحت أكثر دموية: قال جندي لـ "نيويورك تايمز" إن هناك الآن "مقاومة (روسية) أكبر" على مستويي الاستخبارات والقصف، بينما قال آخر لـ "سي أن أن" إن الأمر سيغدو "أصعب أكثر فأكثر" وقد "فقدنا الكثير من الرجال... والعديد من المعدّات". وأعلنت روسيا يوم 13 أيلول (سبتمبر) استعادتها أكثر من 10 بلدات في كورسك.
مع ذلك، قال محللون مقربون من أوكرانيا إنه بمجرد أن أطلقت روسيا هجومها المضاد (المحدود على ما يبدو) في كورسك، رد الجيش الأوكراني بهجوم التفافي من أوكرانيا باتجاه جنوب غلوشكوفو لمحاولة عزل القوات الروسية. وتواجه القوات البالغ عددها نحو 3000 عنصر وضعاً صعباً في المنطقة التي تبعد عاصمتها نحو 4 كيلومترات عن محور التقدم الأوكراني الجديد. ولا تستطيع روسيا إمداد جيشها هناك إلا عبر نهر سيم المعرض لنيران الأوكرانيين.
(الهجوم الأوكراني الجديد نحو غلوشكوفو - الصورة عن حساب تندار)
يصعب التأكد من هذه الادعاءات بشكل مستقل. لكن إذا كان هذا التقييم صحيحاً، حتى ولو لم تنجح القوات الأوكرانية في محاصرة القوات الروسية، فسيدل ذلك إلى أن الجيش الأوكراني لا يزال قادراً على المناورة، حتى عبر هجوم آخر عابر للحدود. مع ذلك، ينبغي موازنة التقدم الأوكراني الجديد مع تصريحات الأوكرانيين أنفسهم عن تصاعد حدة المواجهات. بالتالي، قد يكون احتمال تمتع أوكرانيا بخيارات إضافية احتمالاً واقعياً لكن محدوداً أيضاً.
من 12 إلى 2.5
بعيداً من تطورات خطوط جبهة كورسك، يبدو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي راضياً عما حققه الأوكرانيون في المنطقة الروسية. فهو قال الجمعة إن الروس كانوا يطلقون نحو 12 قذيفة مدفعية مقابل كل قذيفة لأوكرانيا على محور بوكروفسك، بينما أصبحوا يطلقون الآن، بعد عملية كورسك، 2.5 قذيفة لكل قذيفة أوكرانية.
قال "معهد دراسة الحرب" في واشنطن إنه لا يمكنه التحقق من أرقام الرئيس الأوكراني، لكنه أشار إلى "تباطؤ ملحوظ" في وتيرة التقدم الروسي هناك. ونقل مراسل الشؤون العسكرية لصحيفة "بيلد" الألمانية جوليان روبكه عن جنود أوكرانيين في خاركيف قولهم إنهم شعروا بانخفاض الضغط عليهم في تلك الجبهة بعد هجوم كورسك. وكانت تقارير أوكرانية قد ذكرت أن روسيا سحبت بعض قواتها من خاركيف كما من جنوب أوكرانيا، لصد التقدم في كورسك. مع ذلك، لا يزال الغموض سيد الموقف في ما يتعلق بإمكانية سحب بعض القوات الروسية من دونيتسك لدحر الأوكرانيين.
خيارات بوتين
ثمة احتمال في أن تكون القوات الروسية قد أبطأت تقدمها على محور بوكروفسك لحماية أجنحتها. فقد نتج عن التقدم الروسي نتوء عسكري قد يتعرض أحد جناحيه لهجوم أوكراني مفاجئ.
من جهة أخرى، يملك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من خيار. في البداية، هو رفض الوقوع في الفخ الذي نصبته أوكرانيا بحسب عدد من المحللين، وثمة علامة استفهام الآن عن سبب تغيير مفترض لسياسته. في تحليل لنوايا بوتين المحتملة، يقول شون بيل، نائب مارشال جوي سابق في القوات الملكية، إن الجهد الروسي الأساسي يتركز حالياً في دونباس حيث لدى روسيا نحو 10 إلى 12 أسبوعاً قبل أن يحل الشتاء. عندما يتوقف هجوم دونباس، سيكون بإمكان الرئيس الروسي نقل قواته إلى الشمال للتعامل مع القوات الأوكرانية، كما قال بيل لـ "إذاعة أوروبا الحرة/إذاعة الحرية".
لكن بالتوازي، لا يمكن إسقاط حسابات معقدة أخرى، من بينها أن التعامل مع الأوكرانيين في كورسك لن يكون سهلاً. إذا كان صحيحاً أن عدد عناصر الجيش الأوكراني في المنطقة قد يصل إلى 15 ألفاً، فستحتاج روسيا إلى عدد أكبر من القوات لطرد الأوكرانيين. حتى الآن، يقال إن روسيا أرسلت نحو 38 ألف جندي. بالتالي، قد لا يكون كافياً نقل بعض الموارد من دونيتسك إلى كورسك لدفع الأوكرانيين إلى داخل حدودهم.
بعض النتائج الأولية
يرى الضابط الأوكراني فيكتور أندروسيف أن بوتين سيحتاج حتماً إلى تعبئة جزئية كتلك التي حصلت في خريف 2022 للتعامل مع كورسك، بالرغم من عدم شعبيتها. فكورسك بحسب تحليله في "مركز ويلسون" الأميركي، غيّرت حسابات روسيا بشأن الانتصار – أي تجميد خطوط الحرب الحالية – وهي لا تستطيع العودة إلى رؤيتها الأساسية بدون استعادة المنطقة. وخلص إلى أنه "بشكل كبير، سيعتمد مسار الحرب المستقبلي والمفاوضات المحتملة لتسويتها على المعركة حول منطقة كورسك".
يبدو مؤكداً أن أوكرانيا نجحت في خلط حسابات روسيا بشأن الذهاب، أو بالحد الأدنى توقيت الذهاب، إلى طاولة التفاوض من موقع قوة. كذلك، لا تزال السلطات المحلية تصدر أوامر بإخلاء السكان من بعض مناطق كورسك، مما يعني أن روسيا لم ترسخ الاستقرار على خط الجبهة هناك. حتى الآن على الأقل، لا تزال أوكرانيا مستفيدة من غزو كورسك، والمخاوف من التداعيات السلبية لهجومها كسقوط بوكروفسك أو تكبدها خسائر هائلة داخل روسيا، لمّا تتحقّق بعد.