قدم رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق الإيطالي ماريو دراغي أخيراً في بروكسل، وبطلب من المفوضية الأوروبية، تقريراً من 400 صفحة تناول فيه قدرات القطاعات الاقتصادية وتأثيرات التشريعات الأوروبية، كما الخطة البعيدة المدى لإصلاح السياسة الاقتصادية في أوروبا التي تهدف إلى حفاظ الاتحاد على تنافسية اقتصاده، والحاجة إلى استثمار 800 مليار يورو إضافية سنوياً حتى تتمكن دوله العالقة في بيئة صناعية ثابتة من زيادة الابتكار ليواكب التكتل منافسيه الولايات المتحدة والصين، في ظل الضعف في الإمدادات وأسعار الطاقة. خطة دراغي كانت محل تشكيك في برلين قاطرة الاتحاد الأوروبي، إذ أثير حولها الكثير من الجدل، وبخاصة في ما يتعلق بمصادر التمويل المطلوبة. وأوصى التقرير بفرض ديون مجتمعية جديدة في ظل الحاجة إلى زيادة الاستثمارات والتقنيات المتقدمة وإجراءات لحماية المناخ وتعزيز الأمن وتأمين المواد الخام. فماذا عن نقاط الاعتراض؟
بينت التحليلات والقراءات السياسية أن الإصلاحات المقترحة لا تزال تواجه عقبات كبيرة، إذ يتعين على كل دول الاتحاد الأوروبي أن تدعم الخطة بالإجماع، وبخاصة ألمانيا. فالخطة ترقى إلى أن تدفع ألمانيا للآخرين، ويجب على كل دولة أن تتحمل المسؤولية عن مواردها المالية العامة. من جهة أخرى، كانت هناك ردود فعل متباينة من قطاع رجال الأعمال، إذ أشادت رابطة مقدمي خدمات الاتصالات بالمقترحات الرامية إلى تعزيز السوق الداخلية، لكنها تخشى القيود على المنافسة في صناعة الاتصالات ووصفتها بالخطيرة للغاية. ويبقى الأهم لبرلين المسار القانوني وفيه أن المحكمة الدستورية في البلاد وافقت على صندوق "إعادة إعمار كورونا" ومعه الديون المشتركة للاتحاد الأوروبي فقط شرط أن يظل محدوداً لمرة واحدة.
وإزاء ما حملته الخطة من تقديرات للاقتراض وتنبيهات دراغي بأن الاتحاد الأوروبي يواجه تحدياً وجودياً يعرضه لاحتضار بطيء، شكك وزير المال الألماني كريستيان ليندنر بالمقترحات المعدة لتمويل الاستثمارات الأوروبية من خلال الديون المشتركة للاتحاد الأوروبي، وشدد في تصريحات إعلامية في وقت سابق من هذا الأسبوع على أن ذلك لن يساعد في حل المشكلات البنوية للتكتل، وعلى أن تبادل الأخطار يخلق مشكلات مالية، ناهيك بأن المزيد من الديون الوطنية يكلف فوائد ولا يؤدي بالضرورة إلى المزيد من النمو، وألمانيا لن توافق عليها. وطالب بتعبئة قوى النمو في القطاع الخاص لأن الشركات لا تفتقر إلى إعانات الدعم، ولكن إلى مساعداتها أمام صعوبة الوصول إلى رأس المال، في إشارة إلى أنها مقيدة بالبيروقراطية المفرطة.
مشكلة ذهنية
اعتبرت الكاتبة السياسية سابرينا فريتز أن دراغي بورقته للسياسة الاقتصادية بيّن أن هناك مشكلة ذهنية في أوروبا، مشيرة إلى أن "كل دولة في أوروبا لا تفكر إلا في نفسها رغم تباطؤ النمو والبيروقراطية، ولا شركات تكنولوجيا كبرى في القارة، في وقت نراهن بمستقبلنا على شركات صناعة السيارات التي تعاني أزمات ومنافسة صينية شرسة"،. ودعت إلى تعزيز الرقمنة والاستثمار فيها، بدلاً من بناء مسارات جديدة للدراجات في كل مدينة، كما النظر إلى صناعات الطاقة المتجددة باعتبارها فرصة وليست تهديداً، معتبرة أن المطلوب طرح المشكلات والحلول على الطاولة، وبدلاً من الجمود يجب خوض الأخطار، وبالتالي عدم النظر إلى التغييرات على أنها عبء وليست فرصة.
وبين هذا وذاك، قال الباحث الاقتصادي نيكلاس فسترمان لـ"النهار العربي"، إن الاستثمارات التي يطالب دراغي دول التكتل بتوفيرها لإصلاح الاقتصاد تبلغ قيمتها حوالي 5% من الناتج المحلي في الاتحاد الأوروبي الذي وصل في عام 2023 إلى حوالي 16,97 تريليون يورو. وشدد على أن أوروبا لا تستطيع تحقيق أهدافها من دون زيادة الإنتاجية، بينها مثلاً في قطاع الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة في ظل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، مبيناً أن 4 شركات فقط من أصل 50 شركة تكنولوجيا في العالم هي شركات أوروبية، وإلا فسيضطر المرء إلى تقليص الطموحات، وعلى سبيل المثال في ما يتعلق بحماية المناخ أو تطوير التقنيات والعمل لتعزيز الابتكارات، ولافتاً إلى أهمية استثمار الموارد الخاصة والتي تشمل رسوم الاستيراد والضرائب وغيرها لتعزيز الاستثمارات ولعودة النمو في دول التكتل. ويعد الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر منطقة في العالم من حيث الناتج الاقتصادي.
ومن ناحية أخرى، بينت مقاربات أن مجتمع الدول السبع والعشرين المنضوية في التكتل الأوروبي ليس الصين أو الولايات المتحدة حيث تحدد حكومة واحدة التوجهات السياسية والاقتصادية، فهناك 27 دولة أوروبية لكل منها مصالحها الخاصة وكل يسعى إلى إرضاء ناخبيه على طريقته الخاصة، وأن الناخبين باتوا يصوتون في المقام الأول لمصلحة الأحزاب التي تريد قدراً أقل من التكتل بدلاً من المزيد. ومن جهة أخرى، بينت تعليقات أن مشكلة المال كبيرة جداً والرقم المطلوب للاستثمارات يضع الجميع في مزاج سيئ، وأن توفيرها عملية معقدة للغاية حتى أن بعض المشاريع المطروحة غير واقعية في بعض الأحيان.
ومع تعدد الاعتبارات، لم تغفل فريتز الإشارة إلى أنه لسوء الحظ ساهمت كل من المفوضية برئاسة أورسولا فون دير لاين خلال السنوات الأخيرة في هذا الشلل، وكذلك دراغي بصفته الرئيس السابق للمركزي الأوروبي وكان يتمتع لسنوات بنفوذ كبير في أوروبا.
ومن المعلوم أن الخطة أبرزت أيضاً أهمية الحد من البيروقراطية ودعم قطاع صناعة السيارات، إلى خفض أسعار الطاقة واستكمال سوق الطاقة الداخلية وتعزيز الشراء المشترك للغاز، فضلاً عن تعزيز السياسات الأمنية لأنها شرط أساسي للنمو المستدام، مع مزيد من الديون للاستثمار من أجل الحفاظ على التنافسية مع الدول الكبرى، وليبقى الاتحاد الأوروبي لاعباً مستقلاً على المسرح العالمي.