يتجه عدد متزايد من الشباب في فنلندا إلى الحياة الرهبانية، مع ما ترتّبه من ضرورة الاستيقاظ في وقت مبكر، والعمل الشاق، والالتزام بالانضباط الصارم، ويفاجئ هذا الانجذاب إلى الدين الخبراء.
واكتسبت المسيحية والتوجهات المُحافِظَة خلال السنوات الأخيرة شعبية في هذا البلد الاسكندينافي العلماني والتقدمي، وخصوصا في اوساط" الشباب.
فأخوية دير فالامو في جنوب شرق فنلندا، وهو من الأديرة النادرة للكنيسة الأرثوذكسية في هذا البلد الاسكندينافي، بقيت طويلا تضمّ عشرة رهبان، لكنّ عددهم تضاعفَ تقريبا، إذ أصبحوا 18 اليوم.
وقالت أستاذة اللاهوت العملي في جامعة شرق فنلندا كاتي تيرفو نيميلا: "كنت في البداية حذرة جدا في اعتبار ذلك ظاهرة".
ولكن، سنة بعد سنة، كانت نتائج الاستطلاعات حول هذا الموضوع تؤكد زيادة اهتمام الشباب الفنلنديين بالدين.
وفي دير فالامو ذي اللون الأبيض، يبدأ النشاط يوميا عند الفجر وفق برنامج لم يتغير منذ مئات السنين. ففي السادسة صباحا، يستيقظ الرهبان، ثم يصلّون ويتناولون وجبة الفطور وينطلقون بعدها ليعلفوا الأغنام ويشعلوا الشموع وإنجاز المهام الإدارية.
القضاء على "الضغوط الأرضية"
ولاحظ الأرشمندريت الأب ميكايل في تصريح لوكالة فرانس برس خلال زيارة قام بها أخيرا إلى الدير أن "جائحة كوفيد-19 كانت بمثابة نقطة تحوّل".
ويتلقى الأب ميكايل باستمرار رسائل إلكترونية من شبّان تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاما يرغبون في التحدث عن إيمانهم، وأحيانا عن رغبتهم في الانضمام إلى الدير.
وقال الأب ميكايل "ثمة شيء ما في عصرنا" يؤدي إلى ذلك. واضاف: "ربما يعود ذلك إلى المرحلة غير المستقرة التي نعيشها، إذ يبحث الناس عن الاستقرار، أو عن شيء يمكنهم الاعتماد عليه".
أما الاب ستيفن (23 عاما) فأكد داخل كنيسة خشبية قديمة تزيّن الأيقونات واللوحات الدينية الأخرى جدرانها أنه كان يعلم دائماً أنه سيصبح راهباً ذات يوم.
ووصف الشاب الذي نشأ في عائلة أرثوذكسية هذا الأمر بأنه "رائع".
وكان ستيفن غارقا في هموم الحياة اليومية قبل أن يختار الحياة الرهبانية منذ عامين، إذ كان هذا الطالب المَدين قلقا من ارتفاع الأكلاف ويبحث إلى أن يكون له موقع في المجتمع.
وإذ اعتبر أن "اندلاع الحرب في أوكرانيا جعل الأمور أسوأ"، مشددا على أن الانضمام إلى الدير "يزيل كل هذه الضغوط الأرضية".
وينتمي نحو 63 في المئة من السكان البالغ عددهم 5,5 ملايين نسمة في فنلندا إلى الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، في حين أن واحدا في المئة فحسب يتبعون الكنيسة الأرثوذكسية برئاسة بطريرك القسطنطينية.
وأوضحت أستاذة اللاهوت العملي كاتي تيرفو نيميلا أن بعض الشباب ينجذبون خصوصا إلى الهياكل الدينية المحافظة، كالكنيسة الأرثوذكسية البطريركية.
وشرحت أن هذا الاختيار غالبا ما يكون نابعا من معارضتهم للكنيسة الإنجيلية اللوثرية التي تبارك عددا متزايدا من الزيجات بين الأشخاص المثليين.
ويقول آخرون إنهم يستمدون الإلهام من شخصيات مؤثرة كأندرو تيت، وهو شخصية مثيرة للجدل بسبب آرائه الكارهة للنساء.
متمرّد وملحد
واشارت كاتي تيرفو نيميلا إلى أن تمجيدا متزايدا للنزعة المحافظة لوحظ لدى الشباب في بلدان أخرى.
وأوضحت أن "هؤلاء الشباب يجدون في المسيحية ما يدعمهم كرجال في مجتمع يشعرون فيه أن الرجولة لا تحظى بالتقدير".
وعلى العكس من ذلك، تعبّر الشابات الفنلنديات عن تمسّك قوي بالقيم الليبرالية.
وقالت الأستاذة: "لدينا رجال يتوقعون أن تتصرف النساء على طريقة النساء التقليديات أكثر بكثير مما لدينا نساء يرغبن في لعب هذا الدور".
وانضم الشمّاس رافاييل (29 عاما) الذي ارتدى الجبّة السوداء وربط شعره الطويل المغطى بعمامة إلى دير فالامو قبل ست سنوات، بعد حصوله على شهادة الفلسفة.
وقال: "تلقيت تربية تقليدية جدا نظرا إلى كوني منتميا إلى المذهب اللوثري في فنلندا. كنا نذهب إلى الكنيسة مرة أو مرتين في السنة، مما يعني أننا لم نكن شديدي التديّتن". واضاف: "في المدرسة الثانوية، كنت متمردا وكنت أقول عن نفسي إني ملحد".
ولكن عندما واجه أسئلة الحياة الكبيرة، وجد الراحة في التصوف والأرواح والتقاليد القديمة.
وتعلّم الشمّاس الكثير عبر الإنترنت عن الأرثوذكسية، في سعيه نحو "الصراط المستقيم"، وتأثّر ببعض المشاهير كنجم +يوتيوب+ الكندي جوناتان باجو، وقاده هذا العالم إلى دير فالامو.
وقال رافاييل: "لقد أجاب آباء الكنيسة بشكل جيد جدا عن الأسئلة التي طرحتها على نفسي. ويبدو لي أن الأرثوذكسية، على وجه الخصوص، تقدم الإجابات الأكثر تماسكا من بين كل الكنائس المسيحية".