أعاد الهجوم الروسي على أوكرانيا خلط الأوراق الجيوسياسية في القارة الأوروبية بعد عقود من السلام منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وصحيح أن الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي ترك آثاره على خريطة القارة العجوز، لكن مفاعيله لم تكن عسكرية، ولم يهدد سلسلة واردات الطاقة بل على العكس النتيجة كانت لصالح أوروبا الغربية في محطات كثيرة ومتنوعة.
والنتيجة السياسية لسقوط الستار الحديدي، صبت مباشرة في خدمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي توسعت رقعته لتصل حدود روسيا، وهذا ما عدّته موسكو تهديداً لأمنها القومي. بالمقابل كانت أوروبا ترى في توسع "الناتو" مزيداً من الحماية لأمنها وضمانة لاستقرارها ما يساهم في تعزيز قدراتها الاقتصادية.
فرنسا، على الرغم من خلافها القديم مع "الأطلسي" في عهد الزعيم التاريخي شارل ديغول عام 1966 وتحديداً مع الولايات المتحدة، إلّا أنها بمثابة الواجهة السياسية، وإذا ما وضعنا جانباً بريطانيا، فرنسا هي الدولة القادرة بشكل فعّال على نشر وحدات عسكرية قتالية حول العالم سواء ضمن مؤازرة القوات الأطلسية أو تنفيذاً لقرار داخلي لا سيّما في أفريقيا.
نظام دولي جديد؟
في آذار (مارس) الماضي، حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن انتصار روسيا بالحرب في أوكرانيا سيقضي على أمن ومصداقية أوروبا، قائلاً "إذا انتصرت روسيا فلن يكون لدينا أمن بعد الآن، لأن النظام الروسي بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين لن يتوقف عند حدود أوكرانيا"، وأنه في مواجهة هذه التهديدات "يجب أن نقول إننا مستعدون للرد".
وهذه التصريحات تبدو "طبيعية" في سياق الحرب في أوكرانيا وتطوراتها الميدانية، لكن قبل يومين جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي مناقضة تماماً لتلك التي أطلقها قبل نصف عام، إذ دعا إلى "إعادة التفكير في علاقتنا مع روسيا" بعد الحرب في أوكرانيا، وإلى بناء "نظام دولي جديد"، لأن النظام الحالي "غير مكتمل وغير عادل" لأن العديد من الدول الأكثر سكاناً لم تكن موجودة عندما تم توزيع المقاعد.
ماكرون ذهب إلى ما هو أبعد خلال "لقاء من أجل السلام" الذي نظمته جمعية "سانت إيجيديو" القريبة من الفاتيكان وقال: "سيتعين علينا أن نفكر في شكل جديد من التنظيم الأوروبي، وأن نعيد التفكير في علاقتنا مع روسيا بعد الحرب في أوكرانيا".
وبما يذكّر بما كان يطرحه ماكرون قبل الحرب في أوكرانيا من تشكيل جيش أوروبي وغيرها من المسائل، قال في اللقاء نفسه: "يجب أن نكون مبدعين بما فيه الكفاية للتفكير في سلام الغد، السلام في أوروبا بشكل جديد"، مع الأخذ بالاعتبار "المصالحة مع البلقان وواقع أوروبا بشكلها الجغرافي، وهي ليست الاتحاد الأوروبي بالكامل ولا حلف شمال الأطلسي".
بصمة تاريخية
الباحث في الشؤون القانونية والدولية في جامعة "باريس 2" - "باريس بانتيون-أساس" إبراهيم شاهين يرى أن فرنسا لطالما تميّزت بمواقفها عن أوروبا والولايات المتحدة، مشيراً إلى أن ديغول كان أول من اعترف بالصين الشعبية على سبيل المثال. وأنه مع بداية النزاع الروسي الأوكراني "حاول ماكرون أن يقدم نفسه كوسيط وحَكَم، لكن سرعان ما تبدلّ هذا الموقف نتيجة الضغوطات الأميركية ومن دول حلف الأطلسي مثل ألمانيا وغيرها"، وينوّه بالوقت عينه إلى أن تفجير خط "نورد ستريم" للغاز دفع باريس نحو مواقف أكثر تشدداً.
إضافة إلى كلّ ما سبق، يشير شاهين إلى أن كييف أقامت دعوى أمام محكمة العدل الدولية، لا تزال سارية حتى اليوم، بهدف وقف الغزو الروسي، وطالبت أوكرانيا من الدول مؤازرتها، وفرنسا كانت من ضمن هذه الدول، ما ساهم بتوتر العلاقات مع موسكو.
انطلاقاً من هذه المعطيات يخرج الباحث الأكاديمي في حديثه لـ"النهار العربي" باستنتاج أن الموقف الأخير للرئيس الفرنسي يأتي من أنه "يحاول بما تبقى له من ولايته، أن يستعيد دور بلاده كدولة رائدة في أوروبا تعمل على جمع الأطراف، لأن هذه الحرب (في أوكرانيا) لن تستمر إلى ما لا نهاية، بل ستؤدي إلى الجلوس على طاولة المفاوضات وروسيا سيكون لها دور كبير في المنطقة".
ويرى أن الموقف الفرنسي المستجد يتقاطع مع دعوات الكرملين إلى خلق عالم متعدد الأقطاب، وماكرون يدعو لبناء نظام عالمي جديد، وهو سيثير هذا الأمر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا سيشكل موقفاً محورياً وانعطافة كبيرة في العلاقات مع روسيا.
ومن الأسباب وراء الموقف الفرنسي بالنسبة لشاهين، أن "الدعم لأوكرانيا أصبح كبيراً جداً ما أبعد صفة الوسيط عن فرنسا، واليوم يحاول ماكرون استعادة هذا الدور لأنه رأى نتائج الانتخابات الأوروبية والفرنسية، وصعود اليمين المتطرف خلق إرباكاً كبيراً"، وبالتالي لابدّ من التعويل على أكثر من طرف وفتح خطوط تواصل مع أكثر من جهة لضمان استمرارية حكومته الجديدة التي تحتاج إلى التعاون مع باقي الدول "للخروج من الأزمة الاقتصادية التي ترزح تحتها فرنسا، خصوصاً أن العجز بلغ 5.6 في المئة بينما الاتحاد الأوروبي يطالب أن لا يتخطى حاجز العجز 3 في المئة، والمفوضية تحذر من فرض عقوبات"، وبناء على هذه الأرقام "ليس من مصلحة فرنسا أن تعزل نفسها وأن تندفع في الحرب الأوكرانية، وبات لزوماً تغيير في موقفها لأن هناك مؤشرات إلى أن روسيا سيكون لها دور فاعل مستقبلاً في المنطقة وبالتالي من مصلحة باريس استعادة العلاقة مع موسكو". هذا إلى جانب العامل الشخصي بأن "يترك ماكرون بصمته في تاريخ فرنسا وربما استعادة الشعبية التي يخسرها"، بحسب شاهين.
الردّ الروسي على الطرح الفرنسي جاء على لسان الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف، عندما أشار إلى أن "منظومة العلاقات الدولية تتغير الآن" وأنه بات هناك ضرورة لإعادة ترتيب بناء هيكل أمني جديد في أوروبا"، وأشار بيسكوف إلى أن هذا سيتطلب في المستقبل "الكثير من الجهد" وأنه سيكون مصدر اهتمام خاص للكرملين من أجل ضمان المصالح الأمنية المشروعة لروسيا.