تعيد حادثة تحطّم مروحيّة الرئيس الإيرانيّ الراحل ابراهيم رئيسي تسليط الضوء على الحالة المتردّية للنقل الجوّيّ الإيرانيّ. ففي غضون عشرين عاماً، وتحديداً بين سنتي 2000 وأوائل 2020، شهدت إيران 22 حادثاً جوّيّاً قاتلاً بحسب "شبكة سلامة الطيران".
من ضمن تلك الأحداث، برز إسقاط الحرس الثوريّ لرحلة الطيران الأوكرانيّة (PS-752) في 8 كانون الثاني (يناير) 2020 بعدما ظنّ أنّها صاروخ معادٍ. جاء ذلك في وقت كان الحرس يقصف قاعدتين أميركيّتين في العراق ردّاً على اغتيال واشنطن لقائد قوّة القدس قاسم سليماني. حتى من دون احتساب استهداف الطائرة الأوكرانيّة ومقتل جميع ركابها البالغ عددهم 176، سقط بسبب الحوادث الجوّيّة الإيرانيّة ما يزيد على ألف قتيل خلال العقدين الماضيين.
مجموعة عوامل
ساهمت العقوبات الدوليّة في جعل النقل الجوّيّ الإيرانيّ غير آمن. اضطرّت إيران لسحب قطع غيار من جزء من أسطولها الجوّيّ للإبقاء على حيويّة الجزء الآخر. لكنّ ذلك لا يمثّل كلّ الصورة. بحسب ما كتبه المحلّل السياسيّ الإيرانيّ كورش ضيابرى سنة 2023، ساهمت أيضاً إخفاقات إيران في منح الأولويّة لمجالات أساسيّة من التنافسيّة الاقتصاديّة كالسياحة والنقل والاستدامة في تدهور قطاع الطيران الإيرانيّ.
ويشير إلى أنّ أقدم خطوط جوّيّة في البلاد والشرق الأوسط، "إيران إير" (الخطوط الجوّيّة الإيرانيّة) تملك نحو 30 طائرة وحسب. بالمقابل، وعلى سبيل المثال، تملك الإمارات العربيّة المتّحدة 265 طائرة حديثة تنقل المسافرين إلى أكثر من 150 وجهة حول العالم. يضاف إلى ذلك أنّ معدّل أعمار الطائرات الإيرانيّة يبلغ نحو 28 عاماً كما أوضح.
وفي سنة 2018، بحسب صحيفة "تلغراف" البريطانيّة، كانت الخطوط الجوّيّة الإيرانيّة مسؤولة عن تشغيل اثنتين من أقدم 10 طائرات مدنيّة عاملة حول العالم.
وساهمت الأوضاع الماليّة المتردّية في دفع المزيد من الطائرات إلى ملازمة العنابر. في نيسان (أبريل) الماضي، أشار الصحافيّ الإيرانيّ الذي يغطّي شؤون الطيران والدفاع الإيرانيّ باباك تاغفاي إلى أنّ ما تستطيع "الخطوط الجوّيّة الإيرانيّة" تشغيله هو 19 طائرة وحسب. أدّى ذلك إلى تعزيز قوّة "ماهان إير"، الخطوط الجوّيّة التابعة للحرس الثوريّ، على حساب الشركة التقليديّة. فخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بالتحديد، سيطرت "ماهان إير" على العديد من المسارات الداخليّة والآسيويّة التي كانت "الخطوط الجوّيّة الإيرانيّة" تشغّلها سابقاً.
مروحيّة رئيسي ضحيّة لهذا المسار؟
مدى تأثّر تدريب الطيّارين الإيرانيّين بالعقوبات الماليّة المفروضة على إيران غير واضح. بالتأكيد، ثمّة علامات استفهام كبيرة حول العامل البشريّ في تحطّم مروحيّة الرئيس. حتى صدور نتائج التحقيقات الرسميّة، ستُطرح تساؤلات عن سبب اضطرار الطيّارين للتحليق فوق منحدرات جبليّة صعبة (يرتفع موقع التحطّم نحو 2200 متر عن سطح البحر) ووسط ظروف جوّيّة بالغة السوء كما أوضحته أشرطة الفيديو التي نُشرت عن عمليّات التفتيش. هل كان الطيّارون على علم بالأحوال الجوّيّة السيّئة وقرّروا المخاطرة أم أنّ الأمر عبارة عن اضطرابات مناخيّة محلّيّة كان يصعب توقّعها قبل فترة من الوقت؟ وهل تمكّنت مروحيّة الرئيس من إرسال إشارات عن موقعها بعد التحطّم، وإذا كان الجواب إيجابيّاً فلماذا طال الوقت قبل العثور على موقع التحطّم؟
بصرف النظر عن هذه الأسئلة وما إذا كانت ستجد طريقها إلى بعض الأجوبة في المستقبل القريب، يبقى أنّ الرئيس الإيرانيّ الراحل كان يتنقّل عبر مروحيّة "بيل 212" التي يُرجّح أن يكون عمرها أكثر من أربعة عقود، وربما اشترتها إيران خلال عهد الشاه. ثمّة أكثر من دولة تستخدم نسخاً من هذه المروحيّة منها ما هو مخصّص لإطفاء الحرائق أو حمل الأسلحة أو نقل الحمولات وغيرها من الأغراض. مروحيّة رئيسي كانت مخصّصة مثلاً لنقل الركّاب فقط. لكنّ نوعيّة الصيانة الإيرانيّة لتلك المروحيّة خاضعة أيضاً لعلامات الاستفهام نفسها. وشهدت إيران حادثاً مشابهاً آخر شمل هذه المروحيّة سنة 2018 وقد أدّى إلى مقتل 4 أشخاص. وفي سنة 2021، أوقفت سلطات الطيران الكنديّة قيادة هذه المروحيّات بعدما وجد محقّقون في حادث قاتل أنّ المسامير المعدنيّة التي تثبّت شفرات الدوّار الرئيسيّة انكسرت خلال الطيران.
وهناك أيضاً قضيّة اضطرار إيران للاستعانة بطائرة تركيّة من دون طيّار للعثور على موقع المروحيّة. تشير تقارير إلى أنّ المسيّرة التركيّة تمكّنت من رصد العلامة الحراريّة للمروحيّة ثمّ أرسلت الإحداثيّات إلى السلطات الإيرانيّة. بالرغم من صناعة المسيّرات الإيرانيّة وقدرتها على دعم القوّات الروسيّة في أوكرانيا، يبقى معبّراً غياب التقنيّات المحلّيّة ذات الصلة للاستخدام الطارئ، بخاصّة عندما يتبيّن أنّ من نتائج ذلك كوارث تتعلّق بالأمن القوميّ الإيرانيّ.
حين تحطّمت الآمال
علّقت إيران آمالاً كبيرة على الاتّفاق النوويّ (2015) مع مجموعة 5+1 لتحسين أوضاعها الماليّة. لقد كان تعزيز أسطول خطوطها الجوّيّة المدنيّة بطائرات "إيرباص" و"بوينغ" أحد أبرز المكاسب المادّيّة التي توقّعتها خلال المفاوضات وبعدها، إلى جانب الاستثمارات الماليّة الأخرى مع الغرب. بدا الإيرانيّون متفائلين إلى درجة أنّهم توقّعوا انخفاض حجم العلاقات التجاريّة مع بكين مقابل ارتفاعه مع الغرب. لكنّ ذلك لم يحصل، أوّلاً لأنّ الشركات الغربيّة كانت بطيئة في العودة إلى البلاد بسبب جوّ من التشكيك نجم عن التاريخ الطويل من العداء والقضايا المتعلّقة بالشفافيّة، وثانياً بسبب مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وفرضه حملة ضغط غير مسبوقة على إيران.
اليوم، تبدو الأمور أصعب بالنسبة إلى الإيرانيّين. من جهة، فشلت مساعي الطرفين في إعادة إحياء الاتّفاق النوويّ بالرغم من الرغبة الكبيرة لإدارة الرئيس جو بايدن بالتوصّل إلى هذا الهدف. ومن جهة أخرى، قد يزداد الأمر سوءاً إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض حيث تؤشّر غالبيّة استطلاعات الرأي إلى ارتفاع حظوظه في السباق الانتخابيّ.
في حال تبيّن أنّ للعقوبات الغربيّة مساهمة في تحطّم مروحيّة رئيسي، سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كانت طهران مستعدّة لتقييم مواجهتها المفتوحة مع الغرب: إمّا نحو المزيد من التصعيد بسبب تحميله المسؤوليّة، أو نحو انفتاح ضروريّ لكنّه يبدو مستعصياً حتى اللحظة.