كأنّهما عالمان مختلفان. في الخارج، كان مهتمّون كثر يتابعون جهود الإنقاذ الصعبة التي خاضتها الأجهزة الإيرانيّة لمعرفة مصير الرئيس إبراهيم رئيسي بعد تحطّم مروحيّته. في الداخل، وتحديداً بين أروقة الحكم الضيّقة في طهران، كانت بعض الفصائل السياسيّة قد بدأت الإعداد لخوض التنافس الرئاسيّ. يبدو أنّ تلك الفصائل لم تنتظر حتى إعلان نبأ مقتل رئيسي رسميّاً لتبدأ برسم خططها المستقبليّة. هذا على الأقلّ ما يمكن استنتاجه من مقالٍ للمحاضر البارز في التاريخ والعلوم السياسيّة في جامعة كليمسون الأميركيّة آراش عزيزي.
حين سأل عزيزي مقرّباً من رئيس مجلس الشورى (البرلمان) محمد باقر قاليباف عن التداعيات السياسيّة لحادث تحطّم المروحيّة، أجاب: "الدكتور قاليباف سيكون الرئيس الجديد". نشرت مجلّة "ذي أتلانتيك" الأميركيّة مقال عزيزي قبل الإعلان عن مقتل الرئيس الإيراني.
حتى بعد تهميش الإصلاحيّين والمعتدلين في إيران، يظلّ التنافس محتدماً داخل المعسكر المتشدّد للسيطرة أكثر على مقاليد الحكم. إذا كان صحيحاً أنّ منصب الرئاسة بات شبه رمزي في بلاد تنحصر قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجيّة إلى حدّ بعيد بين أيدي المرشد الأعلى، فالصحيح أيضاً أنّ المنصب مؤشّر أساسيّ إلى الديناميّات بين مراكز القوى المختلفة في طهران.
رجل خامنئي المفضّل
تحدّر رئيسي من مدينة مشهد المحافظة في شمال شرق البلاد، وتزوّج ابنة رجل الدين البارز وإمام الجمعة فيها آية الله أحمد علم الهدى، وهو عضو في مجمع خبراء القيادة الذي ينتخب المرشد. ساهمت هذه المزايا في تهيئة المرشد الطريق لوصول رئيسي إلى الرئاسة. ومثّلت تأديةُ رئيسي دوراً أساسيّاً في ما سمّي "لجنة الموت" سنة 1988 إشارة أخرى إلى أنّه كان مستعدّاً لتحمّل مخاطر سياسيّة كبيرة من أجل النظام. من هنا، عمل المرشد على استبعاد شخصيّات بارزة عن الانتخابات الرئاسيّة تمهيداً لإنجاح رئيسي، كما كان الحال مع علي لاريجاني، الرئيس السابق لمجلس الشورى.
لا ينتمي لاريجاني إلى عائلة وازنة في الحياة السياسيّة الإيرانيّة وحسب – هو نجل آية الله ميرزا هاشم الآملي لاريجاني وشقيق الرئيس السابق للسلطة القضائيّة السابق صادق لاريجاني – بل كان أيضاً ممثّلاً لخامنئي في المجلس الأعلى للأمن القوميّ الإيرانيّ. مع ذلك، لم تكن هذه الصفات كافية ليحصل لاريجاني على الضوء الأخضر للوصول إلى الرئاسة. ربّما لأنّ لاريجاني حافظ على استقلاليّة معيّنة ضمن النظام، حتى أنّ البعض وصفه بأنّه وسطيّ معتدل. من نتائج ذلك رفضُ مجلس صيانة الدستور ترشّحه إلى الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة.
(قاليباف - أب)
بالمقابل، كان رئيسي يوافق المرشد الأعلى علي خامنئي في كلّ القرارات تقريباً. لهذا السبب، ارتقى في السلّم الوظيفيّ من مدّعٍ عام إلى رئيس للسلطة القضائيّة فرئيس للبلاد، وربّما – لو أسعفه القدر – إلى مرشد أعلى. كانت هذه خطّة خامنئي المفترضة لتعيين خليفة له، أو بالحدّ الأدنى، واحدة من خططه المفترضة. فحتى وقت قريب أيضاً، ظلّ اسم نجله مجتبى متداولاً إلى حدّ كبير في التحليلات المرتبطة بمن سيخلف خامنئي مستقبلاً.
لكنّ مجتبى، بعكس رئيسي على الأرجح، أمكن أن يثير حفيظة قوة رئيسيّة في إيران: الحرس الثوريّ. بما أنّ نجل المرشد يحتفظ هو الآخر باستقلاليّته الخاصّة، سيكون من الصعب على الحرس التحكّم بقراراته كما يكتب المؤرّخ والدبلوماسيّ السابق في وزارة الخارجيّة البريطانيّة تشارلي غامل. ربّما هنا يبرز دور قاليباف.
بين نقاط القوة والضعف
إذا كان للحرس الثوريّ أن يعزّز نفوذه على أبواب خلافة خامنئي فقد يكون قاليباف خياراً معقولاً بالنسبة إليه. من ناحية، كان قاليباف قائداً للقوّات الجوّية التابعة للحرس الثوريّ بين 1997 و2000. قبل ذلك، كان المدير الإداريّ لـ"مقرّ خاتم الأنبياء للإعمار" وهي شركة تمثّل الذراع الهندسيّة الرئيسيّة للحرس الثوريّ. وحين خدم في أحد فروع الحرس الثوريّ خلال الحرب مع العراق، طوّر قاليباف صداقة خاصّة مع القائد السابق لـ"قوّة القدس" قاسم سليماني.
(سليماني وقاليباف، 2006 - أب)
تمثّل مسيرة قاليباف رافعة أساسيّة على طريق وصوله إلى الرئاسة. لكنّها قد لا تكون رافعة كافية. فقد ترشّح ثلاث مرّات إلى الانتخابات الرئاسيّة منذ سنة 2005 بدون جدوى. في المرّة الأخيرة، أعلن انسحابه من السباق (سنة 2017) لمصلحة رئيسي. من جهة أخرى، ليس واضحاً ما إذا كان قاليباف لا يزال متمتّعاً بعلاقات متينة مع الحرس الثوريّ بخاصّة أنّه غادر صفوفه منذ فترة طويلة. على سبيل المثال، كان لاريجاني عميداً في الحرس الثوريّ خلال الحرب مع العراق، لكنّ ذلك لم يخدمه على طريق الرئاسة. وثمّة مرشّحون آخرون يرتبطون بعلاقات مع الحرس، مثل الرئيس الإيراني الموقّت محمد مخبر الذي قد يترشّح أيضاً إلى الرئاسة. وإذا كان قاليباف يروّج لنفسه بصفته مسؤولاً فعّالاً حين كان عمدة لطهران فتهمُ الفساد لاحقته عن جزء من الفترة التي قضاها في المنصب (2005-2017).
يرى البعض أنّ حظوظ قاليباف للفوز بالرئاسة غير واضحة هذه المرّة أيضاً، بخاصّة أنّه يُنظر إليه كشخص معتدل نسبيّاً. هذه "المرونة الآيديولوجيّة" قد تكون إحدى نقاط ضعف قاليباف. ربّما لهذا السبب، يمكن أن يثير ترشّح رئيس مجلس الشورى حفيظة الحرس الثوريّ. إصرارُه على الترشّح إلى الانتخابات الرئاسيّة في دورات عدّة كما استعدادُه للتكيّف مع متطلّبات الوصول إلى السلطة يجعلان الحرس الثوريّ، نظريّاً، أقلّ قابليّة للتحكّم به، إن لم يكن أكثر ارتياباً منه. علاوة على ذلك، وبحسب بعض الأنباء، يبدو أيضاً أنّ قاليباف يواجه مشاكل داخل مجلس الشورى حيث أراد منافسوه المتشدّدون إطاحته من منصبه، وهو فكّر منذ أسابيع قليلة بتقديم الاستقالة والتفرّغ للانتخابات التي كان مزمعاً عقدها في ربيع 2025.
"هذه مشكلته"
في حديثه إلى عزيزي، الأستاذ في جامعة كليمسون، يقول مسؤول مقرّب من روحاني: "مشكلة قاليباف أنّه يريدها (الرئاسة) بشدّة. يدرك الجميع أنْ ليس لديه أيّ مبادئ وأنّه مستعدّ لفعل أيّ شيء من أجل السلطة". بالتالي، يغدو سؤال عزيزي عمّا إذا كان قاليباف ومجتبى خامئني على استعداد لعقد صفقة بينهما سؤالاً منطقيّاً.
بعد سلسلة من الإخفاقات الانتخابيّة الرئاسيّة، وبينما كانت سنة 2013 الأفضل نسبيّاً بالنسبة إليه حين حلّ ثانياً خلف روحاني بفارق كبير (53 مقابل 17 في المئة)، ربّما يعتقد قاليباف أنّ فرصته قد حانت أخيراً. بحسب تقرير إحسان محرابي في "إيران واير"، يعدّ قاليباف الشخصيّة "الأكثر استعداداً" للترشّح. من غير الضروريّ أن تتطابق عبارة "الأكثر استعداداً" مع عبارة "الأوفر حظّاً". لكنّها، على أيّ حال، قريبة منها.