استئناف المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، ومن ثمّ التطورات الإقليمية بعد حرب غزة، طغت على الأوضاع الداخلية التي عصفت بالجمهورية الإيرانية عقب مقتل مهسا أميني في أيلول (سبتمبر) 2022.
وما أن أُعلِن عن فقدان مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والوفد المرافق في منطقة جبلية وعرة، ثم إعلان مقتلهم، حتى عادت المسائل الداخلية لتظهر وتحديداً في مسألتين رئيسيتين: خلافة المرشد الأعلى كون رئيسي كان أبرز المرشحين وأكثرهم قبولاً، والسياسة الخارجية بعد مقتل الوزير حسين أمير عبد اللهيان في الحادث نفسه وتعيين نائبه للشؤون السياسية علي باقري كنّي خلفاً له.
أمّا باقي المسائل فبقيت خارج البحث الجديّ، تحديداً لجهة حلفاء إيران في المنطقة، إذ يبدو واضحاً أن حادث المروحيّة لن يترك أي تداعيات على "محور المقاومة" لاعتبارات عدّة، منها أن هذه المجموعات ترتبط بالحرس الثوري مباشرة، وسابقاً مع اغتيال الجنرال قاسم سليماني بقي التنسيق مع أركان هذا "المحور" قائماً وبشكل مطّرد.
وعلى رغم التأثير المباشر للحرس الثوري على الرئاسة والسياسة الخارجية، إلّا أنهما يخضعان لنزاع بين الإصلاحيين والمحافظين، ومن هنا كان السؤال عن التحديات المقبلة في الملف الرئاسي، وهل الفترة الفاصلة عن الانتخابات أو بعدها ستعيد الحراك الشعبي الى شوارع المدن.
"لا تغييرات جذرية"
الإجابة الأولى عن هذه التساؤلات، أخذت باحثين في الملف الإيراني إلى اعتبار أنه لن يكون هناك تغييرات جذرية، وأن خليفة رئيسي لن يختلف عنه، طالما أن الاستراتيجية الإيرانية يحددها المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي والمجلس الأعلى للأمن القومي، وأنه في ظلّ الظروف الإقليمية المحيطة وبعد الهجمات المباشرة بين إيران وإسرائيل، لن تكون الكلمة الفصل للإصلاحيين.
واقع الإصلاحيين في إيران مرتبط الى حدّ بعيد بالسياسة الخارجية وتداعيات الاتفاق النووي في فيينا، بعدما أطاحه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ما عرّضهم لحملة انتقادات واسعة من المحافظين. ومن أبرز المنتقدين، علي باقري كني الذي تسلم مهام الخارجية يوم الاثنين، واتهم الموقّعين على الاتفاق بـ"الرضوخ للغرب" وإعطاء الانطباع بأن "إيران ضعيفة للغاية".
غير أن باقري كني، سبق له أن قاد الوفود الإيرانية التي تفاوضت سراً وبشكل غير مباشر مع الولايات المتحدة في سلطنة عُمان في ثلاث مناسبات على الأقل السنة الماضية، كما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز".
أولوية مفاوضات النووي
التعيين هذا مع الخلفية التفاوضية، أعطى انطباعاً أن الأولوية عند النظام في طهران هي للمفاوضات على الملف النووي مع واشنطن. وما لا يمكن أن يمرّ من دون التوقف عنده طويلاً، هو طلب طهران من واشنطن المساعدة في البحث عن المروحية، كما أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر للصحافيين يوم الاثنين. هذه الخطوة لا تأتي بشكل اعتباطيّ ومن غير تمحيص في دولة مثل إيران، لاسيما أنها جاءت بعد بيان التعزية الأميركيّة.
وفوق هذا كله، تبقى أزمة خلافة المرشد الأعلى. وفي هذا الإطار، ترى مسؤولة الاتصالات والاعلام في مركز مالكوم كير - كارنيغي للشرق الأوسط ردينة البعلبكي، أن الأسس في السياسة الخارجية والدفاعية والملف النووي والاقتصاد بشكل عام وببُعده الأمني تحديداً "يحددها المرشد مع الحرس الثوري". وبالتالي، "أقصى ما يستطيعه رئيس الجمهورية في إيران هو أن يشاغب داخل النظام، كما حصل مع الرئيس محمد خاتمي".
وتشير البعلبكي لـ"النهار العربي" إلى أن ميزة رئيسي أنه "ابن هذا النظام منذ بداياته، وهو ووزير خارجيته من المتشددين"، وانتقد روحاني بسبب الاتفاق النووي. وفي عهده "شهدنا قمعاً شديداً للتظاهرات المطالبة بالحريات". وتتساءل عما إذا كان النظام سيستمر بإيصال رؤساء "متشددين" بخلاف الرؤساء "البراغماتيين" أو "الإصلاحيين" أو "المعتدلين" مثل روحاني.
لكن المشكلة التي تستدعي التوقف عندها، بالنسبة الى مسؤولة الاتصالات في كارنيغي الشرق الأوسط، هي أن رئيسي كان المرشح الطبيعي لخلافة المرشد علي خامنئي، وأنه مثل الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني، إذ إنهما كانا يتمتعان بـ"المؤهلات الدينية والمشروعية في النظام والشرعية السياسية كرؤساء جمهورية لخلافة خامنئي، غير أنهما قضيا بحادثين لا يخلوان من الغموض".
وبحسب البعلبكي فإن "معضلة النظام الإيراني اليوم هي منصب المرشد، فهل يكون الحل هو بتوريث مجتبى، نجل خامنئي؟ وهل تكون الرئاسة هي الممر الإلزامي لكي يصبح مجتبى مؤهلاً لهذا المنصب؟".
ولئن تقاطعت الآراء والتحليلات على أزمة "هوية المرشد المقبل"، ومستقبل "المفاوضات النووية"، فقد بدا لافتاً أن يحمّل وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف مسؤولية تحطّم مروحية رئيسي للعقوبات الأميركية التي تمنع بيع قطع غيار للطائرات. وكأنه يستبعد فرضية أيّ عمل أمني، وظريف أكثر من خبر الخلافات الداخلية، وأرّخها في كتابه "عمق الصبر".
إيران سبق لها أن تخطت أزمات متشعبة، والنظام السياسي قادر على الاستمرار. لكن ما هو على المحك، إمكان عودة التظاهرات، إذ يبدو جلياً أن جمر احتجاجات عام 2022 لم ينطفئ، وعلى رغم القيود أدركت أصوات المعارضة طريقها الى وسائل التواصل الاجتماعي مناشدة وقف الإعدامات بحق مشاركين في التظاهرات.