حقّق النائب وجرّاح القلب الإيرانيّ مسعود بزشكيان نوعاً من المفاجأة بحلوله في المركز الأوّل بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة المبكرة في إيران. نُظّمت تلك الانتخابات لخلافة الرئيس الراحل ابراهيم رئيسي في منصبه بعد مقتله في تحطّم مروحيّة الشهر الماضي. بالنظر إلى أنّ خمساً من أصل ست شخصيّات قبِل مجلس صيانة الدستور ترشّحها هي من المحافظين، كانت رغبة المرشد الأعلى علي خامنئي برئيس ينتمي إلى هذا المعسكر أمراً جليّاً. فمجلس صيانة الدستور هو هيئة غير منتخبة يعيّن نصف أعضائها المرشد الأعلى، والنصف الآخر رئيس السلطة القضائيّة الذي يعيّنه المرشد. على هذا المستوى، يمكن اعتبار تقدّم بزشكيان اختراقاً لافتاً للنظر.
على الضفّة الأخرى، كان احتمال حصد بزشكيان نسبة كبيرة من التصويت مرتفعاً، خصوصاً في الجولة الانتخابيّة الأولى، بسبب انقسام الأصوات المحافظة. لكن في الصورة الإجماليّة، وحتى مع انقسام التصويت المحافظ، يبقى أنّ حلول بزشكيان في المركز الأوّل تحديداً ليس من الأنباء السارّة التي رغب المعسكر المتشدّد بسماعها. ويمكن ألّا يكون هذا التصدّر قد دخل حسابات المرشد.
تكتيك محتمل
ربّما كان السماح لبزشكيان باجتياز حاجز مجلس صيانة الدستور تكتيكاً مدروساً لرفع نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع. يهتمّ المسؤولون في طهران بنسب الإقبال المرتفعة على الاستحقاقات العامّة للتشديد على شرعيّة نظامهم. سنة 2021، قبِل مجلس صيانة الدستور بترشيح مسؤول معتدل هو رئيس البنك المركزيّ الإيرانيّ عبد الناصر همّتي. لكن من بين أربعة مرشّحين، لم يحصد همّتي سوى 9.8 في المئة من الأصوات مكتفياً بمرتبة ثالثة بعيدة. بهذا المعنى، تمثّل عودة الإصلاحيّين إلى الصدارة (ولو المؤقتة) علامة استفهام كبيرة بالنسبة إلى المعسكر المحافظ.
في الوقت نفسه، شهدت نسبة الإقبال انخفاضاً قياسيّاً جديداً. سنة 2021، بلغت نسبة الاقتراع نحو 48.8 في المئة، وهو أساساً الرقم الأدنى في تاريخ الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة منذ وصول الثورة إلى الحكم. بينما في انتخابات 2024، بلغت نسبة الاقتراع نحو 39.9 في المئة. لقد تدنّت هذه النسبة حتى عن الانتخابات التشريعيّة في الشتاء الماضي والتي سجّلت إقبال نحو 40.6 في المئة من الناخبين على صناديق الاقتراع.
إذاً، لم تولّد "المقايضة" نتيجة متوازنة. لقد خسر المحافظون الإقبال والمرتبة الأولى في آن واحد. ربّما هناك ما قد يخفّف قلق المحافظين. حجم الأصوات البيضاء/الملغاة التي تمثّل احتجاجاً على الحكم كان أقلّ بكثير من ذاك الذي تمّ تسجيله سنة 2021 والذي بلغ أيضاً نسبة قياسيّة: 13.3 في المئة مقابل نحو 4.3 في المئة خلال الانتخابات الحاليّة.
مطبّات أخرى
تجلّت الإشكاليّة الثانية في تحقيق بزشكيان نسبة مرتفعة نسبيّاً من الأصوات. لقد انتخبه نحو 42.5 في المئة من الناخبين الإيرانيّين. على افتراض أنّ النسبة الكبرى من المقاطعين تمثّل الإصلاحيّين أو المعتدلين، أمكن أن تُترجم أيّ نسبة أعلى من الإقبال فوزاً لبزشكيان مباشرة من الدورة الأولى. صحيحٌ أنّ المرشّح الأصوليّ المنتقل إلى الجولة الثانية من الانتخابات في 5 تمّوز (يوليو) سعيد جليلي لم يكن بعيداً عن المتصدّر إلّا بما يقلّ عن 4 نقاط مئويّة، لكن ثمّة أسئلة معقولة عمّا إذا كان اقتراب بزشكيان إلى هذا الحدّ من عتبة الفوز قد توقّعته القيادة في طهران.
(جليلي - أ ف ب)
وتكمن الإشكاليّة الثالثة في أنّ النسبة التي حصدها بزشكيان قد تحفّز الإيرانيّين الذين قاطعوا الجولة الأولى على تغيير رأيهم والاقتراع يوم الجمعة. إذا كان كلّ ما يلزم لاستعادة الإصلاحيّين الرئاسة الإيرانيّة هو نحو 8 في المئة من الأصوات فالأمل سيكون حاضراً لدى الإيرانيّين وخصوصاً الشباب منهم. معنى ذلك أنّ المفاجأة الحقيقيّة قد لا تكون بعيدة المنال هذه المرّة. يمكن أن يحاكي المرشّح المعتدل تطلّعات قسم من الشباب عبر دفاعه عن تخفيف تطبيق قانون ارتداء الحجاب والذي كان في أساس مطالب التظاهرات التي اندلعت في خريف 2022 عقب مقتل مهسا أميني. وبالنظر إلى أنّ بزشكيان من جذور أذريّة وكرديّة (لجهة والده ووالدته على التوالي)، يمكن أن يكون قادراً على تحفيز المزيد من ناخبي الأقلّيّتين الوازنتين كي يصوّتوا له في الدورة الثانية.
إيران جديدة قيد التبلور؟
بالرغم من نقاط قوّة قد تصبّ في مصلحته، ليس فوز بزشكيان مضموناً. أعلن المرشّح المحافظ الخاسر محمد باقر قاليباف تجيير أصواته لجليلي في الدورة الثانية. حصد قاليباف نحو 13.5 في المئة من الأصوات. نظريّاً، يعدّ هذا الرقم كافياً كي يحسم جليلي فوزه (ولو بشقّ الأنفس)، وبشرط ألّا تزداد نسبة إقبال الإصلاحيّين بشكل كبير على صناديق الاقتراع. وازدياد نسبة الإقبال غير مضمون هو الآخر لسببين على الأقل: اليأس المحتمل لدى الشباب من إمكانيّة إدخال إصلاحات سياسيّة واجتماعيّة كبيرة عبر التغيير من داخل الحكم، كما خوفهم المحتمل من إقدام القيادة الإيرانيّة على التلاعب بالأصوات لمنع فوز بيزشكيان.
حتى لو لم يفز بزشكيان في الجولة الثانية، تعتقد هيئة التحرير في صحيفة "آيريش تايمز" أنّ نسبة الأصوات التي حصدها المرشّح المعتدل هي مؤشّر إلى أنّ إيران ديموقراطيّة جديدة هي "قيد البناء". لكنّ السؤال هو كيفيّة تعامل المعسكر المحافظ مع هذا الاتّجاه المحتمل في وقت تستعدّ إيران لعمليّة خلافة في منصب المرشد. قد يمنح استحقاق الجمعة بعض الأدلّة على أفكار وتوجّهات هذا المعسكر بالنسبة إلى المستقبل.