مع انتظار انتقام إيران من إسرائيل بعد اغتيالها رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية على أراضيها، تلوح تكهنات حول هامش الجرأة المتوفر لدى طهران لتنفيذ عملية الرد. أحد أسباب ذلك أن قرار الانتقام سيعتمد إلى حد كبير على مدى ثقة القيادات الإيرانية بأن خيارها الانتقامي سيظل بمنأى عن التسريب.
أظهرت تقارير وتحليلات إعلامية صدرت بعد اغتيال هنية أن ثمة أجواء، أو توقعات بانتشار أجواء من الشكوك المتبادلة في أروقة الحكم. قال مدير مؤسسة الرأي "استراتيجيك أنالايزس أستراليا" مايكل شوبريدج إن "حجم الارتياب الذي سيفرضه هذا الاغتيال على الإيرانيين سيكون متطرفاً". وأضاف في حديث إلى "سكاي نيوز" الأسترالية أن "أكثر ما هو إثارة للذهول إدخال القنبلة إلى الغرفة الصحيحة (مع ما يتطلبه ذلك من) معرفة الغرفة التي كان على زعيم حماس أن يكون فيها".
أربع مرات
ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" السبت أن إيران "اعتقلت أكثر من 20 شخصاً، من بينهم ضباط استخبارات كبار ومسؤولون عسكريون وعاملون في دار ضيافة يديرها الجيش في طهران" بسبب الخرق الأمني الكبير.
وقبل ساعات، نقلت صحيفة "تلغراف" البريطانية عن مسؤولَين إيرانيين قولهما إن إسرائيل كانت تريد اغتيال هنية خلال تشييع الرئيس الراحل ابراهيم رئيسي في أيار (مايو) الماضي لكنها تراجعت عن ذلك بسبب الحشد الكبير في المبنى واحتمال فشل العملية. ووضع عميلان أجهزة متفجرة في ثلاث غرف ضمن المبنى قبل أن يغادرا إيران مع الحفاظ على عنصر داخل البلاد.
ليس واضحاً ما إذا كانت إيران قد حصلت على إشارات بشأن التهديد الأمني الذي يلاحق هنية قبل الاغتيال. لكن سواء أرصدت تلك الإشارات أم لم ترصدها، يصعب التقليل من حجم الخرق الأمني الذي سهّله ربما عدم مراعاة أسس بديهية في هذا الإطار. تقول بعض الروايات إن هنية سافر إلى طهران ومكث في دار الضيافة نفسها (في حي راقٍ شمال طهران) أربع مرات منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. ساعد ذلك في رسم نمط واضح للمستهدِفين كي يسهل عليهم تعقبه واغتياله.
تأكيد لأنباء سابقة
كان الإسرائيليون مرتاحين في مراقبة هنية إلى درجة أنهم حصلوا ربما على أكثر من فرصة لاغتياله، وفي فترة زمنية قصيرة جداً (نحو شهرين). تراكم هذه الصورة مجموعة الأدلة بشأن التقصير الأمني الإيراني، مع إضافة فرضية حصول تواطؤ من بعض الأجهزة الداخلية مع فرقة الاغتيال.
بحسب ما نقلته "تلغراف" عن مسؤول في الحرس الثوري، "هم متأكدون الآن من أن الموساد وظّف عملاء من ‘وحدة أنصار المهدي للحماية‘" المكلفة حماية الشخصيات الكبيرة. إذاً، لم يؤكد ذلك (مجدداً، إن صح التقرير) أنباء سابقة عن أن وحدات الحماية النخبوية مثل "أنصار المهدي" و"أنصار حماية ولي الأمر" تشهد انشقاقات لعناصرها باتجاه الغرب وحسب، بل أن هذه الوحدات قد تعاني من وجود عملاء داخل صفوفها. يؤمّن هذا لأعداء إيران معلومات استخبارية قابلة للتنفيذ خلال فترة وجيزة (Actionable intelligence).
"دماغ غير متضرر"
في سياق مماثل، إن لم يكن أسوأ وقعاً على إيران، نقلت "تلغراف" أيضاً عن مساعد "مقرب" من الرئيس الحالي مسعود بزشكيان قوله إن الثغرة الأمنية كانت مقصودة لأن الحرس الثوري أراد أذية الرئيس الذي يختلف معه في عدد من العناوين الداخلية والخارجية. وقال المساعد المقرب إنه "ما من دماغ غير متضرر يمكنه أن يقبل بأن هذا الأمر حصل (في يوم تنصيب الرئيس) عرضاً".
يعيد هذا التقييم إلقاء الضوء على ما إذا كان الحرس الثوري غير راض عن انتخاب بزشكيان بدلاً من مرشحهم المفترض في الدورة الأولى محمد باقر قاليباف، ثم سعيد جليلي في الدورة الثانية. في الوقت نفسه، ومع انتشار تكهنات سابقة بأن المرشد الأعلى علي خامنئي "أراد" بزشكيان رئيساً لكي يستعد للانفتاح على الغرب، يمكن أن تتجمع بعض الأدلة على وجود خلافات بين المرشد والحرس الثوري. صحيح أنه من غير الضروري أن تكون التكهنات عن نوايا المرشد الرئاسية قريبة من الواقع، لكن التجاهل الكامل لها قد لا يخدم أوسع زاوية ممكنة لقراءة التطورات الداخلية في إيران.
مخاوف بعيدة المدى
يعقّد كل هذا "الارتياب"، أو بالحد الأدنى هذه البلبلة، عملية صناعة قرار الانتقام من إسرائيل. إذا كانت إيران ستوجه "رداً قاصماً" ضد إسرائيل بحسب ما قاله قائد الحرس الثوري حسين سلامي يوم الاثنين فمن المفيد أن يكون الرد مفاجئاً لا أن يكون كله أو جزء منه قد تسرب إلى الإسرائيليين وحلفائهم. بسبب هذا الأمر، قد تستغرق المداولات مزيداً من الوقت مما يمكن أن يولّد انطباعاً لدى تل أبيب والعالم بأن طهران مترددة، أو حتى بأنها تبحث عن مخرج مع وسطاء.
بالمقابل، قد تقيّد إيران حجم الانتقام خوفاً من أن يثير ذلك رداً إسرائيلياً لاحقاً ضد هدف قيّم جديد في إيران. سيكشف سيناريو كهذا لا حجم الاختراق الأمني وحسب، بل عدم قدرة طهران على معالجة مكامن الخلل السابقة بالرغم من كل الحديث عن الاعتقالات الواسعة في البلاد.
لكن المشكلة الأساسية قد لا تتمظهر في كيفية الانتقام من إسرائيل بل في كيفية ترتيب العلاقات المستقبلية بين مختلف مراكز القرار في طهران، إذا ظلت أجواء الشك المتبادل طاغية على العاصمة. في نهاية المطاف، الاستحقاق الأهم بالنسبة إلى إيران هو صياغة مرحلة انتقالية هادئة بالتوازي مع تداول السلطة المرتقب في منصب المرشد. وسط أجواء سياسية وأمنية مشحونة، لا تبدو المرحلة الانتقالية في إيران، لغاية اللحظة، هادئة إلى هذا الحد.