حتى عام 2006، بلغ عدد سكان إيران نحو 70 مليون نسمة، بنسبة نمو 1.2%. حينها، كانت السياسة الحكومية تدعو إلى "تقليل الإنجاب لحياة أفضل". لكن، بعد فوز محمود أحمدي نجاد بالرئاسة في إيران، تغيّرت هذه السياسة، إذ قال الرئيس حينها إن سياسات الحكومات السابقة بين عامي 1979 و2005 كانت خاطئة، بما فيها سياسة تحديد الكثافة السكانية، وحجته أن إيران قادرة على بلوغ 150 مليون نسمة بسهولة.
أدّت هذه الحجة، إضافة إلى سياسة الدعم الاجتماعي التي انتهجتها حكومة أحمدي نجاد وتمثلت في منح الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمّشة مساعدات مالية، إلى زيادة نسبية في تعداد سكان إيران خلال 12 عاماً. فشهد المجتمع الإيراني نمواً سكانياً بنسبة 1.5%، وبلغ عدد سكان البلاد 80 مليوناً في عام 2016. لكن المشكلة الحقيقية التي تواجهها إيران تكمن في أن للواقع الذي يحكم المجتمع قوة أكبر بكثير من تأثير السياسات الحكومية المتعاقبة، فبعد مرور 10 سنوات، تراجع النمو السكاني إلى 0.07%، وزاد عدد سكان إيران 5 ملايين نسمة فقط، إلى نحو 85 مليوناً.
منذ أكثر من 15 عاماً، تشجّع الحكومات الإيرانية المتعاقبة على زيادة معدلات الإنجاب، حتى أعلنت وحدات تابعة للحرس الثوري الإسلامي في إيران عن تقديم كل الإمكانيات والمعونات للتشجيع على الزواج وانجاب الأطفال، وجعلت من ذلك سياسة لها أولوية. كما تولّت وسائل الإعلام دعوة الشباب إلى الزواج وحثّهم على الإنجاب، بحملات إعلانية صباحاً ومساءً. وزيادة في التشجيع، حُظر بيع أقراص وأدوات منع الحمل في الصيدليات والمتاجر.
برلمانياً، سُنّت قوانين تدعو إلى التنمية السكانية، وأُقرّت مشاريع تطبيقية مواكبة لها تشمل منح المواطنين قروضاً ميسّرة، ومعونات اقتصادية واجتماعية، وتسهيلات في تسجيل السيارات، وتوفير مساكن لائقة، إضافة إلى رفع الرواتب والأجور، في سبيل تحقيق الهدف السكاني المتمثل في 102 مليون نسمة عام 2050.
ثمة أسباب كثيرة تمنع الإيرانيين من الاستجابة للسياسة الحكومية التي حثّت مواطنيها دائماً على الزواج والإنجاب، لكن يمكن اختزالها في مسألتين: تتعلّق الأولى بالتهافت الاقتصادي والمعيشي الذي تعيشه إيران، فيما تتّصل الثانية بالتغيّرات الأساسية الخاصة بطبيعة حياة الجيل الجديد في المجتمع.
اليوم، تسير حكومة الرئيس مسعود بزشكيان على الخطوات "السكانية" ذاتها، إذ أكّدت في اجتماعها الأخير المضي قدماً في السياسات الإنجابية التي توصل إلى تحقيق الهدف المذكور أعلاه. وهنا، رُبّ سؤال يطرح نفسه، لم ترغب أي من الحكومات الإيرانية الإجابة عنه: "لماذا فشلت جهود إيران في رفع معدلات الزواج والإنجاب معاً؟".
برأي الخبراء، لا تشكّل شيخوخة السكان تهديداً عاماً يواجهه معظم البلدان المتقدمة والنامية على حدّ سواء فحسب، إنما التهديد الفعلي نابع من اتباع سياسة تحثّ على الزيادة السكانية في ظلّ أوضاع اقتصادية صعبة، فربما يؤدي هذا الأمر إلى وقوع البلاد في أزمات خطيرة. على سبيل المثال، يواجه الإيرانيون نقصاً في مواردهم المائية، وأزمة سكن، وندرةً في فرص العمل للشباب، وتراجعاً في وسائل النقل العام، وارتفاعاً في نسبة تلوث الهواء، وغير ذلك من أزمات. إلى ذلك، لا تتمتع المرافق الاجتماعية والخدمية في البلاد بمواصفات يمكنها أن تتحمّل الزيادة في عدد السكان. وهذه، في النهاية، طريق آخرها تصدّعات في المجتمع الإيراني أخطر كثيراً من التهديد الذي تمثّله شيخوخة المجتمع نفسه.
وثمة سبب أخطر بعد، يكمن في تجاهل الإيرانيين دعوة حكوماتهم إلى رفع مستوى الزواج والإنجاب في المدن الكبرى، حيث تعيش الطبقتان المتوسطة والغنية، اللتان ينشد أفرادهما نمطاً جديداً في الحياة السريعة. حلّ هذا النمط محلّ نمط تقليدي ساد طويلاً بتقاليده القديمة في الزواج وتعدد الأطفال، حتى لو توافرت الإمكانيات لذلك، فمن مظاهر الحياة الجديدة التي تسود اليوم الطبقة المخملية الإيرانية تفضيلها تربية حيوان أليف على إنجاب طفل، وهذا ما لم يكن شائعاً في إيران قبل 30 عاماً.
سمعتُ فتيات وفتياناً يقولون إن تربية الأطفال في غياب المساواة الاجتماعية وانتشار الفقر قرار غير منطقي، بل قرار قاس بحق الأطفال أنفسهم. وهكذا، تضرب العوائق الاقتصادية والفكرية والثقافية التي تحدّ من الرغبة في الإنجاب جذورها عميقاً في واقع المجتمع الإيراني، وهذا يعني صعوبة نجاح أي حكومة في فرض سياستها الإنجابية على المجتمع. وعليه، ربما يكمن الحل العقلاني لهذه المسألة في تحقيق نمو اقتصادي ورفاهي مجتمعي في الدرجة الأولى، فلا يضطر الشباب حينها إلى العزوف عن الزواج... وإن تزوّجوا، لا يتريّثون في الإنجاب. وإن أنجبوا، لا يكتفون بولد واحد.
في الوقت نفسه، على الدوائر الحكومية في إيران إعداد خطط اقتصادية واجتماعية حديثة، تلحظ الدور الفعّال الذي يمكن أن تؤديه شريحة من بلغوا منتصف العمر، كما في البلدان المتقدمة، فهؤلاء رأسمال بشري مهمّ، يشكّل رافعة اقتصادية للبلاد، ويساهم في حلّ المعضلات الاجتماعية.