رغم أن الجمهورية الإسلامية في إيران تصف دائماً الولايات المتحدة الأميركية على أنها العدو الأكبر لها على الساحة الدولية، إلا أن الشعب الإيراني لا يزال يحمل في ذهنيته تصوراً قاتماً ومنغلقاً أكثر تجاه إنكلترا وروسيا، هذه الذهنية تعود إلى أسباب تدخلات كل من هاتين الدولتين في إيران على مدى 200 عام تخللتها أفعال ضد مصالح الشعب الإيراني.
ويتذكر الشعب الإيراني بمرارة عهد القاجاريين، وخوض معارك لسنوات طويلة بين إيران والروس أوائل القرن التاسع عشر، وما نجم بعد ذلك من إبرام معاهدتين، الأولى معاهدة كلستان عام 1813 بين روسيا القيصرية ودولة القاجار في إيران وما نتج عنها من فصل لمدن كثيرة في منطقة القوقاز وأجزاء من أراض إيرانية وضمها إلى روسيا القيصرية دائماً، والثانية معاهدة تركمانجاي عام 1828 بين روسيا والدولة القاجارية، ونصت على أن تتنازل الدولة القاجارية عن أقاليم وأراض لمصلحة روسيا، أيضاً، بمساحات اشتملت على 250 ألف كم من أراضي إيران. وهي الأراضي التي تمثل اليوم دول أذربيجان وأرمينيا وجورجيا.
لذلك، وعلى رغم مرور أكثر من 200 عام على تلك الأحداث وما رافقها من اقتطاع أجزاء من أراضي إيران، فهي لا تزال تعتبر بمثابة تاريخ مؤلم للغاية بالنسبة إلى الإيرانيين الذين يسمونها ضمن ثقافتهم العامة، بالحقبة التركمانية.
أضف إلى ذلك، ما قدمته حكومة روسيا لنظام صدام حسين في العراق من دعم عسكري، إبان الحرب بين البلدين، ما زاد من تفاقم حالة التشاؤم لدى عامة الإيرانيين تجاه روسيا.
في السنوات الأخيرة التي مضت، ومع ما رافقها من تشديد العقوبات الأميركية على إيران، وتوسع تنظيم "داعش" في المنطقة، وبخاصة في سوريا والعراق، زادت إيران وروسيا من أوجه التعاون المشترك بينهما في المجالات العسكرية والأمنية لمواجهة "داعش" من جهة، ومن جهة أخرى لدعم حكومة بشار الأسد. وعلى وجه التحديد، في العامين الماضيين، ونتيجة تدهور العلاقات بين موسكو والاتحاد الأوروبي وأميركا بسبب حربها ضد أوكرانيا، أصبحت طهران أقرب إلى موسكو من ذي قبل.
لكن هذا التقارب، لم يكن يعني بالنسبة إلى الشعب الإيراني شيئاً يُذكر، وهذا يمثل واقعاً مثيراً للاهتمام، ذلك أنه على رغم التقارب الذي حصل بين طهران وموسكو، فدولة الروس لا تزال تمثل بالنسبة إلى الشعب الإيراني جهة غير موثوقة أبداً، بل إن الشعب الإيراني يتوقع من سلطات حكومته ألا تلعب طهران دوراً إيجابياً في السياسة الخارجية مع روسيا. وما يزيد من الطين بلة إزاء موقف الشعب الإيراني من روسيا، هو ما قامت به الأخيرة من دعم لجمهورية أذربيجان في ما يتعلق بممر زنغازور أو مقاطعة سيونيك.
إن ما يتعلق بممر زنغازور، يتلخص في أنه خلال الحربين اللتين جرتا بين أذربيجان وأرمينيا، الأولى خلال الأعوام 1991 - 1994 والثانية عام 2020، حاولت أذربيجان الاستيلاء على مرتفعات كراباخ الجبلية والتي تبلغ مساحتها حوالى 4 آلاف كلم مربع، والتي تخضع حالياً لحكم أرمينيا، إلا أن أذربيجان فشلت في تحقيق ذلك.
لذلك عمدت هذه المرة وقررت أن تقوم بوصل باكو العاصمة بمقاطعة نخجوان التي تقع جنوب أرمينيا وجعلها تحت تصرفها عبر ممر زنغازور الذي يبلغ طوله حوالى 40 كم وعرضه 5 كيلومترات جنوب أرمينيا. هذا القرار تحقق لمصلحة باكو طبقاً للمادة 9 من اتفاقية السلام لأرمينيا، حيث يسمح لأذربيجان بأن تستخدم هذا الممر تجارياً، والذي هو في الواقع يخضع لسيادة أرمينيا.
قرار استيلاء باكو على هذا الممر، يعد في الواقع انتهاكاً للأعراف الدولية، بل يمثل تجاوزاً للخط الأحمر لإيران وأمنها الجيوسياسي، الأمر الذي جوبه برد فعل قوي من الجهات السياسية والعسكرية في إيران. وفي الحقيقة، إن سياسة باكو هذه، إنما تعني إجراءها تغييراً في الحدود الدولية المتعارف عليها، والتجاوز على الحدود المشتركة الرسمية بين إيران وأرمينيا، والتي أثرت بشكل وبآخر، سلباً، على الواقع الاقتصادي بحوالى 12 مليار دولار في ما يتعلق بالترانزيت الإيراني.
وإضافة إلى الخسائر الاقتصادية، فإن إيران تنظر من زاوية أخرى إزاء ممر زنغازور، وبالتحديد ما يتعلق بالأمور الأمنية والاستراتيجية وما يجري إزاء التعاون الحاصل بين جمهورية أذربيجان وإسرائيل ضمن المنطقة.
على هذا الأساس، فإن إعلان روسيا دعمها لسياسة جمهورية أذربيجان تجاه قضية ممر زنغازور التابع لأرمينيا، يعتبره الشعب الإيراني بمثابة طعنة له في الظهر. وقد أحدثت هذه القضية موجة من الغضب وعدم الارتياح لدى الرأي العام الإيراني، بل إن إصرار موسكو على تبنيها مواقف كهذه، إقليمية واستراتيجية حساسة، يعد تأكيداً في حد ذاته لتلك التركات السلبية التي ترسخت في ذهنية الشارع الإيراني تجاه روسيا.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذا يعني أنه في ظل ممانعة إيران الجادة مع دعم الغرب لأرمينيا وحتى قلق الروس إزاء تزايد نفوذ تركيا في المنطقة، وبخاصة منطقة القوقاز، فإن ممر زنغازور سيبقى خاضعاً لسيادة أرمينيا ولسنوات طويلة، وفي حال كهذه، يجب على جمهورية أذربيجان اللجوء إلى استخدام هذا الممر بشكل ترانزيت لأمور التجارة والنقل مع مقاطعة ناختشيفان (نخجوان)، وجورجيا وتركيا.
إن هذه السياسات العدائية التي تنتهجها روسيا ضد إيران، ستضاف إلى ما ترسخ في ذهنية الشعب الإيراني، وستزيده قناعة أكثر بأن يمحو كل شكل من أشكال الاعتماد على روسيا أو التعاون معها مهما تغير من أمور.