ضاق الخناق أكثر على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد انضمام الوزير في مجلس الحرب المصغر بيني غانتس إلى وزير الدفاع يوآف غالانت في المطالبة بخطة مفصلة لليوم التالي للحرب في غزة، وعدم الاستسلام لمطالب الوزيرين المتشددين في الائتلاف الحكومي إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الداعية إلى احتلال دائم للقطاع ومعاودة الاستيطان فيه.
في التوقيت، اختار غانتس الذي يتزعم حزب "الوحدة الوطنية" مؤتمره الصحافي السبت، قبل ساعات من وصول مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إلى إسرائيل للقاء نتنياهو، ليحدد مهلة لرئيس الوزراء تنتهي في 8 حزيران (يونيو) المقبل، كي يخرج بخطة تحدد رؤية الحكومة الإسرائيلية لغزة، في مرحلة ما بعد الحرب.
خطة النقاط الستّ
وفي الجوهر، سبق لغانتس أن انتقد نتنياهو مراراً واقترح تحديد موعد لإجراء انتخابات بحلول أيلول (سبتمبر)، لكن هذه المرة الأولى التي يهدد فيها بالاستقالة صراحة ويطرح خطة من ست نقاط تتضمن استعادة الأسرى، وإنهاء حكم حركة "حماس"، ونزع سلاح غزة، وإنشاء إدارة دولية للشؤون المدنية فيها بالتعاون مع الأميركيين والأوروبيين والعرب والفلسطينيين، ودعم جهود تطبيع العلاقات مع السعودية، وتوسيع الخدمة الإلزامية لتشمل كل الإسرائيليين.
لم يتأخر نتنياهو بالرد معتبراً أن هذه الاقتراحات "معناها واضح: نهاية الحرب وهزيمة إسرائيل، والتخلي عن معظم الرهائن، وترك حماس سليمة وإقامة دولة فلسطينية".
هذا علماً أن غانتس، في ترجيع لصدى مواقف نتنياهو، دعا إلى بقاء "السيطرة الأمنية" لإسرائيل على غزة، و"عدم السماح لأي قوة خارجية، صديقة أو عدوة، بفرض دولة فلسطينية علينا". وهنا يأخذ غانتس في الاعتبار مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي (اليهودي) الذي يرفض بنسبة 60 في المئة إقامة دولة فلسطينية.
و"تمرد" غانتس في الحسابات السياسية قد يلحق ضرراً بنتنياهو أكثر من التهديد العلني الذي أطلقه غالانت الخميس بالخروج من الحكومة، إذا لم تتوصل الحكومة الإسرائيلية إلى وضع خيار ثالث، بين خياري السيطرة العسكرية الدائمة على غزة أو عودة حركة "حماس". ويرفض غالانت، في مماشاة للموقف الأميركي، "السيطرة العسكرية أو المدنية" على غزة.
حسابات مختلفة لنتنياهو
وإذا كان غانتس قد حذر من أن "الاعتبارات الشخصية والسياسية بدأت تخترق قدس الأقداس في الأمن القومي الإسرائيلي... أقلية صغيرة سيطرت على مقصورة قيادة السفينة الإسرائيلية ووجهتها نحو المياه الضحلة الصخرية"، فإن نتنياهو لديه حسابات مختلفة، ولن يتردد في التضحية بمجلس الحرب المصغر الذي يضمه وغالانت وغانتس، لمصلحة بقاء الائتلاف الحكومي الأكثر تشدداً في تاريخ إسرائيل.
وتنقل صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية عن مايكل كوبلو مدير منتدى السياسات الإسرائيلي الذي يتخذ واشنطن مقراً له أن "أقصى ما يخشاه نتنياهو، أن يستقيل بن غفير وسموتريتش من ائتلافه الحكومي، وأن يتسببا تالياً في إجراء انتخابات مبكرة... وهذا ما يفسر تلميحاته وسلوكه في ما يتعلق بمروحة واسعة من القضايا".
ويقول السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة مايكل أورين إن "نتنياهو يعتقد أن بقاء إسرائيل متعلق جوهرياً بمصيره هو... وهذا ما يجعله قادراً على تحمل الضغوط الهائلة".
وبعد ساعات من الأجواء الإيجابية التي سادت عقب قبول "حماس" باقتراحات الوسطاء المصريين والقطريين لوقف النار وتبادل الأسرى في 6 أيار (مايو) الجاري، أمر نتنياهو الجيش الإسرائيلي بالتوغل في رفح والسيطرة على المعبر مع مصر، بما يرضي الوزيرين المتشددين في حكومته. وسبق ذلك إنذار وجهه سموتريتش إلى نتنياهو أكد فيه أن حكومة تقبل بوقف للنار (ولو موقتاً) في غزة "هي حكومة لا تستحق الوجود".
نتنياهو لا يثق بلابيد
يملك سموتريتش وزير المال وزعيم حزب "الصهيونية الدينية"، وبن غفير وزير الأمن القومي وزعيم حزب "القوة اليهودية"، 14 مقعداً في الكنيست. وعلى رغم أن زعيم المعارضة يائير لابيد عرض على نتنياهو شبكة أمان لحكومته، في حال استقالة بن غفير وسموتريتش، إذا وافق نتنياهو على وقف النار، فإن الأخير رفض السير بهذا الاقتراح لأنه لا يضمن انقلاب لابيد عليه لاحقاً والذهاب إلى انتخابات مبكرة.
على أن موقفي غالانت وغانتس، لا ينبعان من فراغ. وهناك جملة من الأسباب التي تملي عليهما التحرك، من بينها تصاعد التوتر مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع إصرار نتنياهو على مواصلة الحرب واحتلال رفح من دون تقديم خطة "ذات صدقية" تضمن حماية المدنيين واستمرار تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة.
والأسبوع الماضي، كرر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الطلب من نتنياهو التفكير بخطة لما بعد الحرب في غزة، وهذا جزء من مباحثات سوليفان في إسرائيل.
تأثير التطورات الميدانية
وليست الخلافات مع واشنطن هي التي تثير الانقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي، بل يتعين الأخذ في الاعتبار الواقع الميداني المتحرك وعودة المعارك بضراوة إلى مناطق شمال غزة والتهديد بغرق إسرائيل في حرب استنزاف طويلة، بما يرتبه ذلك من خسائر بشرية واقتصادية، فضلاً عن العزلة الدولية المتصاعدة في العالم، من احتجاجات الجامعات في أميركا وأوروبا والتظاهرات الدورية في غير دولة، وجلسات محكمة العدل الدولية المستمرة للنظر في دعاوى جنوب أفريقيا التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، إلى احتمال إصدار المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق نتنياهو ومسؤولين سياسيين وعسكريين بتهمة قطع الإمدادات الغذائية عن سكان غزة بما يرقى إلى ارتكاب جرائم حرب، كل ذلك بدأ يحدث بعض التغيير في الرأي العام الإسرائيلي، وتجعل غالبية تؤيد وقف الحرب مقابل استعادة الأسرى.
كما أن تظاهرات عائلات الأسرى الإسرائيليين التي بدأت تجذب أيضاً المؤيدين لوقف الحرب، لم يعد في الإمكان تجاهلها من قبل الطبقة السياسية في إسرائيل. وبما أن الاستطلاعات ترجح فوزاً واضحاً لغانتس على نتنياهو في الانتخابات لو أجريت اليوم، فإن هذا من الحوافز التي تدفع برئيس حزب "الوحدة الوطنية"، إلى الابتعاد أكثر عن نتنياهو بعدما شكل غطاء وشرعية بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
ربما هذه المرة الأولى منذ "7 أكتوبر" التي يجد فيها نتنياهو محاطاً بهذا الكم الهائل من الضغوط الداخلية والخارجية، التي تطالبه باتخاذ خيار استراتيجي، إما القبول باتفاق وقف للنار وتبادل الأسرى، وإما انفراط عقد مجلس الحرب، وتعرضه تالياً لمزيد من التحديات الداخلية، ورهن قراراته أكثر فأكثر لمشيئة بن غفير وسموتريتش وأجندتهما الأيديولوجية.
لكن عندما يفكر نتنياهو بأنه ساعة تتوقف الحرب ستحين ساعة تقديمه جردة حساب عن الإخفاق في 7 تشرين الأول، فإنه يفضل مواصلة الحرب وربط مصيره الشخصي بالمصالح السياسة والعسكرية ليس لإسرائيل فحسب، بل على صعيد المنطقة برمتها.
يقول الكاتب الإسرائيلي بن كاسبيت إن "البقاء السياسي لنتنياهو ليس الهدف الأول بل الهدف الثاني والثالث ودائماً".