وضع طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعض الدول الأعضاء الرئيسية في مأزق ديبلوماسي يتعلق بكيفية دعمها إسرائيل والمحكمة في الوقت نفسه.
ولم يراجع بعد قضاة المحكمة الجنائية الدولية التحرك الذي أقدم عليه خان يوم الاثنين، وهو أول محاولة لملاحقة رئيس وزراء حالي مدعوم من الغرب. وبوسع القضاة تعديل الطلب أو رفضه أو قبوله. لكن دخوله الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المثير لانقسامات عالمية جعل بعض أبرز داعمي المحكمة يتساءلون عن مدى ولائهم.
وكان مدعون قد أبلغوا عواصم، منها باريس ولندن وبرلين، بخطط مسبقة مما مكن الحكومات من تنسيق ردود الفعل. لكن كثيرا منها رفضت قول ما ستفعله في حال صدور مذكرات الاعتقال بحق زعماء إسرائيليين بسبب الحرب في غزة.
وقال مسؤول حكومي ألماني طالبا عدم نشر اسمه: "... بالطبع يضعنا ذلك في مأزق لعدة أسباب"، مشيرا إلى التزام برلين السياسي الذي لا يتزعزع نحو أمن إسرائيل ودعم مدع عام مستقل في المحكمة الجنائية الدولية في الوقت نفسه.
ودافعت ألمانيا بالفعل عن سياسة توريد الأسلحة إلى إسرائيل أمام محكمة دولية أخرى في لاهاي، وتقول مصادر ديبلوماسية إن إصدار المحكمة الجنائية الدولية أي مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ستزيد من الضغوط السياسية غير المرغوب فيها.
وذكر مصدر حكومي أن ذلك قد يقوض أيضا جهود ألمانيا لزيادة دعم المحكمة في واشنطن.
ووصف الرئيس الأميركي جو بايدن استهداف خان مسؤولين إسرائيليين بأنه "شائن" وقال إن حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" وإسرائيل لا تتساويان، وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن إدارة بايدن تعتزم العمل مع الكونغرس لفرض عقوبات محتملة على مسؤولي الجنائية الدولية.
واندلعت الحرب في قطاع غزة بعد هجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) جنوب إسرائيل التي تقول إن الهجوم أدى إلى مقتل 1200 شخص واحتجاز أكثر من 250 رهينة.
وتقول وزارة الصحة في غزة إن ما يزيد على 35 ألف فلسطيني قُتلوا خلال الاجتياح الإسرائيلي للقطاع وقصفه، مع وجود ما لا يقل عن 10 آلاف آخرين في عداد المفقودين وتحول مناطق كبيرة من القطاع إلى أنقاض.
وطلب خان استصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بالإضافة إلى ثلاثة قياديين في "حماس"، لاتهامهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الصراع.
بريطانيا وإيطاليا مختلفتان مع فرنسا
تعكس الانقسامات في أوروبا بسبب قرار خان خلافا دوليا أعمق على مسعى الفلسطينيين منذ أمد طويل إقامة دولة لهم، وهو خلاف برز اليوم الأربعاء حينما قالت دول عدة إنها ستعترف بدولة فلسطينية.
وجميع الدول السبع والعشرين الأعضاء بالاتحاد الأوروبي أعضاء أيضا في المحكمة الجنائية الدولية، وأشار جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد إلى أنها "ملزمة بتنفيذ قرارات المحكمة".
لكن تحرك خان كشف خلافات سياسية بين القوى الأوروبية بشأن الصراع وجهودها لدعم العدالة الدولية.
وقال مصدر ديبلوماسي إن بريطانيا ونظيراتها من مجموعة السبع تسعى لمنع الجنائية الدولية من إصدار مذكرات اعتقال "إشكالية" بحق إسرائيليين. وبريطانيا عضو في المحكمة منذ 2001 ودعمت مسعى خان لأن يصبح مدعيا عاما للمحكمة.
وقال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون في مجلس اللوردات أمس الثلثاء: "لا أعتقد للحظة واحدة أن السعي إلى (إصدار) مذكرات الاعتقال هذه سيسهم في إخراج الرهائن، لن يسهم في إدخال المساعدات ولن يسهم في التوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار".
وأضاف: "ومثلما قلنا منذ البداية، فلأن إسرائيل لم توقع على نظام روما (المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية) وفلسطين غير معترف بها كدولة، فإننا لا نعتقد بأن المحكمة لها سلطة في هذا المجال".
وقبلت المحكمة الجنائية الدولية الأراضي الفلسطينية في عضويتها عام 2015، في حين أن إسرائيل ليست ضمن أعضائها ولا تعترف بسلطتها القضائية.
ويقول خان إن مكتبه لديه سلطة قضائية على الأحداث منذ اندلاعها في السابع من تشرين الأول في إسرائيل وقطاع غزة.
وقال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني للتلفزيون المحلي يوم الاثنين إنه يعارض مساواة الجرائم التي ارتكبتها حركة "حماس" في السابع من تشرين الأول برد فعل جيش تابع لحكومة منتخبة ديموقراطيا.
وذكر في حديثه لصحيفة "كورييري ديلا سيرا" اليومية أمس الثلثاء أن إصدار مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن "يؤجج معاداة السامية".
وقال مسؤول بوزارة الخارجية الإيطالية أن من غير المرجح أن ترد الدول الأوروبية باتخاذ إجراءات مشتركة بسبب اختلاف وجهات النظر تجاه المحكمة الجنائية الدولية وإسرائيل.
وقال وزير الخارجية الأيرلندي مايكل مارتن: "من المهم أن نحترم استقلال المحكمة الجنائية الدولية وحيادها"، بينما وصف رئيس وزراء التشيك بتر فيالا طلب المدعي العام بأنه "مشين وغير مقبول على الإطلاق".
وذكرت فرنسا في بيان أنها دأبت منذ أشهر على "التحذير بضرورة الالتزام الصارم بالقانون الدولي الإنساني، ومن المستوى غير المقبول من القتلى المدنيين في غزة على وجه الخصوص".
وأضافت وزارة الخارجية الفرنسية أنها "تدعم المحكمة الجنائية الدولية واستقلالها ومواجهة الإفلات من العقاب في جميع الأحوال".
ورحبت نائبة رئيس الوزراء الإسباني يولاندا دياث في منشور لها على وسائل التواصل الاجتماعي بطلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ووصفته بأنه "خبر جيد".
وأضافت: "يجب أن يسري القانون الدولي على الجميع. نطالب منذ أشهر بدعم تحقيقاتهم".
وذكر مصدر حكومي طلب عدم الكشف عن هويته أن تعاون إسبانيا مع مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية يرتكز على القانون المحلي، وتنفيذها "تلقائي" من خلال الإنتربول.
ونفى زعماء إسرائيليون وفلسطينيون اتهامات ارتكاب جرائم حرب، كما انتقد ممثلون عن الجانبين قرار خان.
استقلال المحكمة الجنائية الدولية
ذكر الباحث بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أنتوني دوركين أن طلب إصدار مذكرات الاعتقال في حد ذاته يمكن أن يحد من قدرة نتنياهو وغالانت على السفر.
وأضاف أن جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 124 دولة مطالبة بالقبض على الهاربين المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية.
وقال: "إذا تقاعست دول أوروبية عن الالتزام بمذكرات الاعتقال فسيكون لذلك تداعيات مدمرة، كونها من بين الداعمين الأكثر نشاطا للمحكمة".
وتابع قائلا: "مصداقية أوروبا في دعم سيادة القانون تتطلب ألا يقدم المسؤولون الأوروبيون على أي تصرف من شأنه تقويض تحركات المحكمة الجنائية الدولية أو التنديد بها أو التلميح بأن الدول الديموقراطية يجب أن تكون فوق القانون".
والمحكمة الجنائية الدولية ليس لديها قوة شرطة، وبالتالي فإن القبض على المشتبه بهم يجب أن يكون من خلال الدول الأعضاء أو الدول المتعاونة معها.
وسمحت جنوب أفريقيا في 2015 للرئيس السوداني آنذاك عمر البشير بالإفلات رغم أن المحكمة الجنائية الدولية كانت تريد القبض عليه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية.
وأحجمت هولندا الحليف المقرب لإسرائيل والتي تستضيف مجموعة من المحاكم الدولية في لاهاي عن الإجابة على أسئلة محددة عما إذا كانت تعتزم تنفيذ القرارات المحتملة للمحكمة في إطار الصراع بين إسرائيل وحركة "حماس".