طغى مشهد الانقسام بشأن تجنيد اليهود المتشددين (الحريديم) بالجيش على المشهد السياسي في إسرائيل، متقدّماً على التفاصيل اليوميّة للحرب مع حركة "حماس" في غزة، وخطورة التصعيد الذي تشهده الجبهة الشماليّة مع "حزب الله" في جنوب لبنان، والتي أنذرت بإمكانيّة اندلاع حرب شاملة مدمّرة قد تطال الشرق الأوسط برمّته، قبل أن ينقل الأميركيون عن الإسرائيليين رغبتهم بحلّ سياسي ما أسهم بتنفيس أجواء الاحتقان والتوتّر، وإن موقتاً.
ماذا حصل؟
ورغم أنّ الخلاف بشأن إعفاء الحريديم من الخدمة في الجيش الإسرائيلي ليس جديداً، إلا أنّ تفجّره الآن مرتبط مباشرة بحاجة الدولة العبريّة إلى أكبر عدد من الجنود في ظلّ "الحرب الوجوديّة" التي تخوضها ضدّ "حماس" وحلفائها، وفقاً لوصف بنيامين نتنياهو، الذي سعى بقوّة إلى تمديد إعفاء حلفائه في الائتلاف الحكومي من التجنيد عبر تمرير مشروع في الكنيست لصالح استمرار العمل بقانون التجنيد الذي تم طرحه في الكنيست السابق عام 2022، ويعفي الشباب اليهود المتشددين من الخدمة.
إلا أنّ المحكمة العليا الإسرائيليّة، وفي ضربة جديدة وجّهتها للحكومة، قضت بانتفاء وجود سند قانوني يسمح بتمييز الحريديم وإعفائهم من أداء الخدمة العسكرية، وبسحب الحكومة التمويل من أيّ معهد ديني لا يمتثل طلابه لإخطارات التجنيد، ما أثار موجة من الغضب الواسع في صفوف المتشددين الذين دعوا إلى تظاهرات مندّدة بالقرارات المتخذة.
ويعود تاريخ إعفاء الحريديم من أداء الخدمة العسكرية إلى العام 1949، بعد عام من إعلان قيام "دولة إسرائيل". وكانوا في ذلك الوقت نحو 400 شخص فقط.
وفي العام 1998، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً يقضى بعدم قانونية هذا الإعفاء، إلا أنّ الحكومات المتعاقبة لطالما حاولت إيجاد "مخرج قانوني" للإبقاء على إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية.
لا مهرب تشريعي
وفي حين انتقد حزب الليكود، الذي يتزعّمه نتنياهو، توقيت صدور القرار، قال إنّ الائتلاف الحاكم يعمل بالفعل على تشريع جديد يعالج مسألة إعفاءهم، في إشارة إلى مشروع قانون التجنيد، الذي تمت الموافقة عليه الكنيست بالفعل في القراءة الأولى.
لكنّ مشروع القانون الذي يُعوّل عليه رئيس الحكومة الإسرائيليّة لنزع فتيل المشكلة، لا يمكن أن يتمّ تمريره بحسب محمود محارب، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
يقول محارب، في تصريح لـ"النهار العربي"، إنّ نتنياهو "لا يمكنه الهروب من قرار المحكمة لسببين رئيسيين، الأوّل أنّ المشروع المطروح لا يمكن أن يحظى بالأغلبيّة المطلوبة في الكنيست"، خاصة وأنّ حزبي "شاس" و"يهودوت هتوراه" اللذين يشكّلان ركناً أساسياً في الحكومة "لا يمكنهما القول به".
أما السبب الثاني فهو "الأجواء السائدة في إسرائيل ضدّ تمديد إعفاء الحريديم"، وهي تُشكّل عامل ضغط كبير على رئيس الحكومة، الذي يبدو بمظهر العاجز عن الإيفاء بوعوده، في ظلّ حرب متعدّدة الجبهات أنهكت الجيش الإسرائيلي وأجبرته على استدعاء أكثر من 300 ألف من الاحتياط، ما زاد الأعباء السلبيّة على الاقتصاد.
وكان لافتاً امتناع رئيس لجنة الأمن والخارجية في الكنيست يولي إدلشتاين طرح مشروع القانون للتصويت "دون إجماع واسع النطاق"، وعدم تحديد موعد للقراءتين الثانية والثالثة اللازمتين كي يصبح المشروع قانوناً سارياً.
تأثيرات على الائتلاف
ويرى مراقبون أنّ تعثّر مشروع القانون وصمود حكم المحكمة العليا قد يشكّلان خطراً على الائتلاف الحاكم يدفعه للانهيار والذهاب نحو انتخابات مبكرة.
لكنّ محارب يستبعد ذلك، ويشير إلى أنّ حزبي "شاس" و"يهودوت هتوراه" اتخذا قرارهما بالفعل بعدم الانسحاب من الحكومة "لأنّهما يعلمان جيّداً أنّ الائتلاف الحاكم اليوم لا يمكن أن يُحقّق أغلبية نيابيّة في الانتخابات المقبلة".
وفي السياق نفسه، فإنّ تصويت وزير الدفاع يوآف غالانت ضدّ مشروع القرار لن يؤثّر كذلك على بقائه في الحكومة من عدمه.
وصوّت لمصلحة المشروع 63 عضواً من أصل 120 في الكنيست مقابل معارضة 57 صوتاً، وكان غالانت الوحيد من الائتلاف الحكومي (64 مقعداً) الذي صوّت ضد القانون.
وخرجت أصوات مقرّبة من نتنياهو لانتقاد وزير الدفاع، على غرار مدير مكتبه تساحي برافرمان، الذي قال عن غالانت: "إنه وقح، يجب إقالته".
ويقول الباحث الفلسطيني: "نتنياهو في موقف ضعيف جدّاً لا يمكّنه من إقالة غالانت لأنّه اختار معارضة مشروع القانون"، ويوضح أنّ "خطوة كهذه يمكن أن تخلق شرخاً داخل الليكود وتدفع بعض قيادات الحزب للتضامن مع وزير الدفاع، ما يشكّل خطراً وجوديّاً على الحكومة يسعى رئيسها لتفاديه".
هل ينصاع الحريديم؟
وبناءً عليه، ستكون حكومة نتنياهو مجبرة مبدئياً على توجيه الجيش الإسرائيلي باستدعاء الشباب المنتمين إلى المعاهد الدينيّة للانضمام إلى صفوفه، والذين يبلغ عددهم 63 ألفاً، منهم 13 ألفاً تتناسب أعمارهم راهناً مع شروط الخدمة العسكريّة.
لكن من المستبعد أن ينصاع هؤلاء إلى قرار المحكمة المتخذ أو الحكومة المرتقب، في ظلّ غياب قانون واضح للعقاب الذي يمكن أن يواجهوه بحال عدم الامتثال.
يردف محارب: "من الصعب رؤية الشرطة العسكريّة تعتقل الشباب اليهود المتشددين دينياً لتجنيدهم بالقوّة".
وفي ما يخص إغلاق أبواب هذه المراكز إثر منع التمويل عنها بسبب عدم الامتثال، فإنّ قادة الجماعة "يزورون الولايات المتحدة حالياً لجمع أموال تُعوّض التمويل الحكومي، وهذا ليس صعباً عليهم".