النهار

حرب غزّة تكرّس الانقسام الإسرائيلي والصّراعات داخل أجنحة اليمين.. نتنياهو يواجه مؤسّسات الدّولة العميقة
جاد فيّاض
المصدر: النهار العربي
عوامل داخلية عديدة تسبّبت بحالة انعدام الاستقرار في إسرائيل، من الصراع بين القيادة السياسية ومؤسسات الدولة العميقة كالأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية والكيانات الاقتصادية، مروراً بصراع النزعات المتطرفة، ما بين معسكر اليمين الليبرالي ومعسكر اليمين الديني، وصولاً إلى كيفية مقاربة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
حرب غزّة تكرّس الانقسام الإسرائيلي والصّراعات داخل أجنحة اليمين.. نتنياهو يواجه مؤسّسات الدّولة العميقة
الحكومة الاسرائيلية...صراعات في الداخل
A+   A-
قبل اندلاع حرب غزّة، كانت الصحف العبرية تحذّر من تصاعد خطر وقوع حرب أهلية في إسرائيل بفعل الانقسام السياسي الحاد الذي كان يُسيطر على المشهد العام لسنوات، والذي انعكس حالة من شبه شلل لمدّة تزيد على ثلاث سنوات ونصف سنة قبل "طوفان الأقصى"، وتمثّل بإجراء الانتخابات مرّات عدّة وتشكيل حكومات عديدة، من دون أن تنجح في إعادة الاستقرار السياسي إلى الداخل الإسرائيلي.

عوامل داخلية عديدة تسبّبت بحالة انعدام الاستقرار في إسرائيل، من الصراع بين القيادة السياسية ومؤسسات الدولة العميقة كالأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية والكيانات الاقتصادية، مروراً بصراع النزعات المتطرفة، ما بين معسكر اليمين الليبرالي ومعسكر اليمين الديني، وصولاً إلى كيفية مقاربة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

ثمّ إن ملفات خارجية أخرى كان لها وقعها، كمقاربة حالة "حماس" التي تشهد انتشاراً في الضفة الغربية والداخل الإسرائيلي وما عادت محصورة بقطاع غزّة حتى قبل بدء الحرب، أو التعاطي مع خطر "حزب الله" الذي طوّر قدراته العسكرية جنوب لبنان وبات يُشكل خطراً حقيقياً على إسرائيل، أو مقاربة الملف الإيراني عامةً، وضمناً جماعات إيران المسلحة وبرنامجها النووي.

أعادت عملية "طوفان الأقصى" ترتيب الاهتمامات الإسرائيلية، وطغى الملف العسكري والأمني فتصدّر سلّم الأولويات على حساب السياسة الداخلية، لكن هذا الواقع لم يستمر، فعادت الانقسامات العنيفة مع بدء المراحل الأخيرة لعمليات غزّة وبدء البحث في المستقبل السياسي والأمني للقطاع، وتزخيم مفاوضات تبادل الأسرى بين معسكر يريد الحرب وآخر يدفع نحو الهدنة.

صراع مؤسسات الدولة العميقة
أزمات الحكم في إسرائيل ليست مستجدة، بل موجودة منذ نشأتها، لكنها صارت تأخذ طابعاً مختلفاً أكثر عنفاً، وذلك بسبب التناقضات السياسية والاختلافات الاجتماعية، والتي تنتج منها محاولات استقطاب حادّة، برأي الباحث صقر أبو فخر، الذي يُشير إلى أن الانقسام حاصل بين يمين ديني وآخر علماني، فيما اليسار الإسرائيلي يندثر ولا تأثير فعلي له.

يوافق الكاتب السياسي محمد هوّاش على هذه النظرة، ويرى أن اليمين الديني المتمثّل بنتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش يريد السيطرة على مؤسسات الدولة العميقة التي يديرها يمينيون ليبراليون، وهذه المؤسسات تتمثّل بالجيش، الأجهزة الأمنية والاستخبارية، الهيئات القضائية وعلى رأسها المحكمة العليا، واليمين المتطرف حوّل إسرائيل إلى ديكتاتورية.

هذا الصراع ظهر إلى العلن قبل فترة قصيرة، حينما انتفض يوآف غالانت على سياسات نتنياهو وحاول الدفع باتجاه هدنة لا يُريدها الأخير، وحينما اندلعت مواجهة كلامية بين بن غفير ومدير الشاباك رونين بار، ولا يتوقف الأمر على القادة بل ينسحب على عناصر الجيش الذين أظهر الكثير  منهم غضباً ضد سياسات الحكومة، ما يشير إلى الصراع بين المؤسسات السياسية والمؤسسات العسكرية والأمنية.

الجيش الإسرائيلي يرفض سياسات نتنياهو، وفي رأيه أن هذا السلوك العنيف الذي لا يراعي حداً أدنى من حقوق الإنسان أو الحقوق المدنية الفلسطينية يؤدي بإسرائيل إلى عزلة دولية ومحاسبة قضائية، وهذا ما يلفت إليه هوّاش، ويتحدث عنه أبو فخر أيضاً، لكنه يستبعد أن يدفع إلى استقالات في صفوف القادة العسكريين والأمنيين في المدى المنظور بسبب ظروف الحرب.

الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يحتل مرتبة متقدمّة من مراتب عوامل الانشاقاقات الإسرائيلية، وبات مستقبل غزّة مادة جدلية إضافية تفرض نفسها. لا يتفق قادة إسرائيل على "اليوم التالي" للقطاع، وفي هذا السياق، يشير أبو فخر إلى أن اليمين الديني يُريد احتلال غزّة بعيداً عن أي تسوية مع "حماس"، وبعض سياسييه يتطرّفون أكثر ويدفعون باتجاه حرب مع لبنان وإيران، عكس اليمين العلماني.

الخلاف يمتد إلى كوريدورات اليمين الديني
الأزمة السياسية لا تتوقف على معسكري اليمين الديني واليمين الليبرالي، فداخل معسكر اليمين الحاكم انقسامات، وإن كانت محدودة، تتمثّل بإشكالات داخل حزب "الليكود"، وحسبما ينقل هواش، فإن عدداً من سياسيي "الليكود"، بينهم غالانت، ينتقدون نتنياهو على منح متطرفين كسموتريتش وبن غفير صلاحيات واسعة لجهة التعاطي بالشؤون الفلسطينية ومواجهة مؤسسات الدولة العميقة.

في ظل هذه الفوضى، ثمّة أسئلة تُطرح حول مستقبل إسرائيل وتركيبتها الاجتماعية. يتفق أبو فخر وهوّاش على أن الاختلافات الاجتماعية تتفاقم، مع صعود اليهود الشرقيين والسفارديم على حساب الأشكيناز، وحضور الحريديم اللافت في المجتمع الإسرائيلي، ولا يستبعدان وقوع مواجهات وصدامات بين الإسرائيليين، لكن أبو فخر يستبعد الحرب الأهلية.

مستقبل نتنياهو: بين المنزل والسجن؟
سؤال آخر يُطرح، وهو حول مستقبل نتنياهو. ثمّة من يعتقد أن نتنياهو يطيل أمد الحرب محاولاً تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية تعفيه من المحاسبة بعد انتهاء الحرب، خصوصاً أنّ من المرجّح أن يتحمّل مسؤوليات كبيرة عما حصل يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) وما بعده، فيما يقلّل آخرون من صحّة هذه النظرية، انطلاقاً من كون القرار ليس محصوراً بنتنياهو فقط، بل بيد حكومة الحرب.

أبو فخر يقول إن نتنياهو قادر على المناورة واللجوء إلى تكتيكات سياسية تحفظ له مصالح شخصية في فترات السلم العادية، وليس خلال الحرب. ففي الحالات الاستثنائية كما هي الحال اليوم، يصبح تأثير العامل الشخصي ضئيلاً مقارنةً بالمصالح الاستراتيجية، ومن المستبعد أن يقوم نتنياهو بمخاطرات عسكرية لأهداف شخصية، إلى جانب أن الكابينيت العسكري شريك في صنع القرارات.

لكن في رأي هوّاش، ثمّة رهانات لنتنياهو على بعض العوامل التي قد تنقذ مستقبله السياسي، منها إطالة أمد الحرب لتحقيق مكاسب نوعية في غزة ولبنان، بالإضافة إلى خسارة الديموقراطيين الانتخابات الأميركية ووصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومن ثم تحقيق مصالح استراتيجية لإسرائيل كمواجهة إيران ومحاولة تفكيكها، وبالتالي ليس من مصلحته انتهاء الحرب.

وإذ يستشهد هواش بنماذج قادة إسرائيليين تعرضوا للمحاكمة، مثل إسحق رابين ومناحيم بيغن وإيهود أولمرت، فإن نتنياهو معرّض للمحاكمة، فيما يُشير أبو فخر إلى أن التحقيقات بعد الحرب قد تحمّل نتنياهو المسؤولية الأكبر عمّا حصل، "والكثير من الرؤوس ستسقط"، ومن المرجّح أن يكون مصيره الخروج من الحياة السياسية إذا لم تتبدّل المعطيات وينظّم انتخابات يحصل خلالها على أغلبية كاسحة.

في المحصلة، الأزمة السياسية عميقة في إسرائيل، والصراع يشتد بين الأجنحة المتعدّدة والمتنوعة الهويات، والتي تختلف بدرجات تطرّفها، ولا أفق لحلول جذرية في ظل بحث مؤجّل حتى الحد من الأخطار المحدقة التي تهدّدها، من "حماس" جنوباً إلى "حزب الله" شمالاً وإيران شرقاً، لكن لا شك في أن هذه المخاطر تلعب دوراً بالحد الأدنى للحفاظ على تماسك الداخل الإسرائيلي وتوحيده.

اقرأ في النهار Premium