يتفق المحللون الأتراك على كون حزب "الرفاه مجدداً" هو أحد أكبر الفائزين في الانتخابات المحلية التي أسدل ستارها في 31 آذار (مارس) الماضي بفوز تاريخي ومفاجئ للمعارضة التركية، بعد أكثر من عقدين من تفرّد حزب "العدالة والتنمية" بصدارة المشهد الانتخابي التركي.
احتل الحزب الإسلامي المحافظ، المشارك في الانتخابات مستقلاً للمرة الأولى، المركز الثالث من حيث عدد الأصوات في عموم البلاد، وأيضاً في العاصمتين السياسية والاقتصادية: أنقرة واسطنبول، ظافراً ببلدية كبرى وأخرى فرعية ووصيفاً في 6 بلديات مختلفة.
"الرفاه مجدداً" وريث "الرؤية الوطنية"
يتبع حزب "الرفاه مجدداً"، الذي تأسس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، أيديولوجيا "الرؤية الوطنية" (Millî Görüş)، لمؤسسها السياسي التركي الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، والقائمة على فكرة توحيد الدول الإسلامية في العالم وإقامة عالم جديد عادل مع منظمة التعاون الاقتصادي الإسلامي وتنظيمات الاتحاد العسكري الإسلامي، وهي الأيديولوجيا التي أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورفيقاه عبد الله غول وأحمد داوود أوغلو وغيرهم الابتعاد عنها حين وصولهم إلى الحكم عام 2002.
الحزب الذي يرأسه فاتح نجل نجم الدين أربكان، انشق عن "حزب السعادة" - أحد ورثة "الرؤية الوطنية" في تركيا - متّهماً إياه بالانزياح عن مبادئه وقيمه. وخاض "الرفاه مجدداً" سباقه السياسي الأول كجزء من "تحالف الشعب" بقيادة "العدالة والتنمية" في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في أيار (مايو) 2023، وذلك بعد انسحاب رئيسه فاتح أربكان من السباق الرئاسي، على الرغم من جمعه للمئة ألف توقيع المشروطة لخوض المنافسة، في خطوة فسّرت بكونها تكتيكاً ذكياً لرفع سقف التفاوض مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
خرج الحزب من هذه الانتخابات محتلاً المركز السادس بنسبة 2.8% من الأصوات التي حصل عليها من أكثر من 1.5 مليون ناخب، موصلاً 5 نواب إلى البرلمان التركي.
وفي الانتخابات الأخيرة فاوض "الرفاه مجدداً" السلطة بسقف عال من المطالب، بما فيها عدد من البلديات الفرعية الحساسة في اسطنبول وبلديات مركزية في ولايات أخرى، مقابل سحب مرشّحه لبلدية اسطنبول، الذي شكّل تهديداً جدّياً لأصوات رجل أردوغان محمد كوروم.
وفي مناورة تكتيكية، رد الحزب على اتّهامات أردوغان له بالعمل لمصلحة فوز حزب "الشعب الجمهوري" العلماني بالانتخابات، بالإعلان عن استعداده لسحب مرشّحيه قبل يومين من ساعة الصفر شريطة تحقيق بعض مطالبه، وفي مقدّمتها إيقاف التبادل التجاري مع إسرائيل على خلفية حرب غزة، ما زاد من شعبيّته في أوساط المحافظين الأتراك إلى حد كبير في وقت زخر فيه الإعلام التركي بأنباء ووثائق استمرار شحنات الخضار والفواكه والألبسة الشتوية العسكرية والإسمنت والطاقة وحتى قطع السلاح إلى تل أبيب.
وبذلك نجح وريث أربكان الشرعي والأيديولوجي في زيادة أصواته زيادة كبيرة، خاصة في وسط الأناضول وشرقها، وجذب عدداً كبيراً من الناخبين المؤيدين لأردوغان في المناطق التي اعتبرها حزب "العدالة والتنمية" معقلاً له على مدى عقود، لينتزع من السلطة بلديتي ورفا ويوزغات، ويلحق بها في بلديات دوزجي وقونيا وقيصري ومرعش وريزي وإلازيغ، بزيادة 1.3 مليون صوت عن الانتخابات السابقة.
"الرفاه مجدداً" وإرث "العدالة والتنمية" المهترئ
ترى قيادة حزب "الرفاه مجدداً" وصولها إلى السلطة أمراً حتمياً بعد النجاح الأخير. ويؤكد المحللون الأتراك أن الحزب الذي يجمع بين الرؤية الوطنية والخطاب الشعبوي اليميني الصاعد في العالم، يشهد صعوداً كلاسيكياً لحزب سياسي، ومستقبله يعتمد على قدرته في بث الأمل والتحوّل نحو الشمولية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والاستقطاب السياسي الحاد في البلاد.
يركّز الحزب في تفسير نجاحه الأخير بكونه "رد فعل من الناخبين الأتراك على ابتعاد السياسيين عن الأخلاق والروحانية"، في إشارة واضحة إلى نيّته في رسم تيار ثالث بعيد عن كل من السلطة والمعارضة بالمسافة ذاتها.
في تصريحات إلى "النهار العربي"، يشرح المستشار الإعلامي السابق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كمال أوزتورك، أن "الرؤية الوطنية في تركيا اليوم ممثلة من خلال 5 أحزاب سياسية هي العدالة والتنمية والرفاه مجدداً والسعادة والمستقبل وديفا، وجميعها امتدادات لحزب الرفاه الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان، لكن ما يميز الرفاه الجديد عن الأحزاب الأخرى أن مؤسسه هو نجل أربكان نفسه".
وأضاف: "بما أن العدالة والتنمية أعلن ابتعاده عن خط الرؤية الوطنية، وفيما ينظر إلى المستقبل وديفا كأحزاب ليبرالية محافظة لا كجزء من الرؤية الوطنية، فقد انحصرت المنافسة لتمثيل هذه الأيدلولوجيا بين الرفاه مجدداً والسعادة".
ويعتقد أوزتورك الذي شغل أيضاً منصب مدير مجلس إدارة وكالة الأناضول التركية الرسمية قبل سنوات، أن "الرفاه مجدداً من خلال نسبة 6% من الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة تمركز في قلب التيار المعارض المحافظ بالكامل، إضافة إلى تمثيله الرؤية الوطنية".
ويعرف التيار المعارض المحافظ في تركيا بأنه القاعدة الشعبية الدائمة لحزب العدالة والتنمية أيديولوجياً مع وجود انتقادات ومطالب لها من الحكومة التركية، لكنّها تصر على إبقاء مسافة بينها وبين الأحزاب العلمانية أو الليبرالية التي لا ترى إمكانية تحقيق مطالبها من خلال هذه الأحزاب.
دعم "الرفاه الجديد" رد فعل
بنى "الرفاه الجديد" جزءاً كبيراً من حملته الانتخابية على رفض الكتلة الداعمة لـ"العدالة والتنمية" حصر الحكومة التركية رؤيتها بما يخص حرب غزة في محاولة خلق بيئة سلام بين إسرائيل وحماس، مع استمرار العلاقة التجارية بين أنقرة وتل أبيب.
بالمقابل، رفع فاتح أربكان سقف مطالبه عالياً بالحديث عن ضرورة إرسال جنود أتراك إلى غزة وطرد السفير الإسرائيلي ووقف كل أشكال التجارة مع إسرائيل، وصولاً إلى إغلاق قاعدة إنجرليك وقاعدة كوريسيك للرادار في ملاطية.
كما ندد مرشّح الحزب لرئاسة بلدية اسطنبول محمد التين أوز "تصدير تركيا للأسلاك الشائكة التي أحاطت بها إسرائيل المسجد الأقصى لمنع المصلين من الدخول إليه، والتجاوزات الأخلاقية والروحية في ملف التعامل التجاري مع إسرائيل".
بالإضافة إلى مطالب السياسة الخارجية، ركّز أربكان على مطالب تحريك الاستثمار والإنتاج والتوظيف والتنمية والتصدير، ورفع رواتب المعوقين إلى الحد الأدنى للأجور وغيرها من الملفات ذات الطابع المعيشي الاقتصادي.
يقول أوزتورك، الكاتب في عدد من الصحف التركية والعالمية، في حواره مع "النهار العربي": "الأصوات التي حصل عليها الرفاه مجدداً ليست نابعة من برامجه الإدارية القوية، أو مرشّحيه المميزين لرئاسة البلديات، بل هي أصوات رد فعل من ناخبي العدالة والتنمية الرافضين للسياسات الحكومية الحالية".
ويعتقد أوزتورك المؤلف للعديد من الكتب الوثائقية والسياسية أن "أصوات الرفاه الجديد الحالية لم تكتسب صفة الاستمرارية بعد. ولتحقيق ذلك، على الحزب تقوية أصواته البالغة اليوم 6% من خلال مشاريع سياسة صحيحة وخطط وحملات سياسية قوية، وهو ما يقوم به منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة (العام الماضي)، لكن ناخب العدالة والتنمية المحافظ الذي منح صوته للرفاه مجدداً في اسطنبول أو ملاطية غضباً من الحكومة، سيعود للتصويت للعدالة والتنمية حينما يعلن الأخير أنه أخطأ في ملفات معينة وأنه سيعمل على تصحيح أخطائه".
يؤكد حزب "الرفاه مجدداً" رفض العودة إلى التحالف مع حزب "العدالة والتنمية" بأي شكل، في دليل واضح إلى عزمه المضي قدماً في توسيع مساحته وثقله في الساحة السياسة التركية، متزوّداً بإرث أربكان المحبب لدى المحافظين الدينيين الأتراك، والزخم الذي اكتسبه فاتح نفسه من خلال دغدغة المشاعر الشعبوية اليمينية، خاصة مع اندثار الأحزاب المحسوبة على تيار الرؤية الوطنية التي خسرت الانتخابات الماضية بدخولها ضمن "تحالف الأمة" المرفوض من قبل الإسلاميين في تركيا، ولم تنجح في الوصول إلى عتبة 1% في الانتخابات الأخيرة.
الطريق لا يزال طويلاً وصعباً أمام فاتح أربكان، "الذي يمتلك طبعاً حظوظ التحول إلى شخصية سياسية تركية وازنة وفاعلة" حسب رأي أوزتورك، "فالسياسة موضوع له علاقة بالممارسة الميدانية، ولا أراه خبيراً بقدر أبيه، اسم أربكان مهم جداً في تركيا، إذا استطاع من خلال حملاته السياسية وخطابه السياسي تقويتها فسينجح، لكن من المبكر إطلاق الأحكام في هذا السياق" حسب رأيه.
وينهي أوزتورك حديثه بالقول "حتى 2028 (موعد الانتخابات الرئاسية) ستشهد تركيا ظهور فاعلين سياسيين جدد لمرحلة ما بعد أردوغان، اليوم هناك رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش كمرشّحين أقوياء للرئاسة، وبالتوازي الجامعة المحافظة أو تيار الرؤية الوطنية ستخلق أيضاً ممثليها لهذه المرحلة".