بعد الخسائر المادية والانتخابية التي لحقت بحزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، إثر فقدانه لمعظم البلديات الكبرى في الانتخابات المحلية الأخيرة التي جرت نهاية آذار (مارس) الماضي، جاءت سلسلة التجاوزات التي أعلن الرؤساء الجدد من المعارضة عنها في بلديّاتهم لتفاقم أزمة الثقة بين الناخبين الأتراك والسلطة من جهة، وتزيد من خسائر العدالة والتنمية المعنوية والشعبية.
أدّى نزيف الأصوات الانتخابية "للعدالة والتنمية" إلى انتزاع حزب "الشعب الجمهوري"، المعارضة الأم في البلاد، 3 بلديات كبرى جديدة بالإضافة إلى احتفاظه ببلديات اسطنبول وأنقرة وإزمير، و7 بلديات مركزية من السلطة، كما انتزع كل من حزب "الحركة القومية"، وحزب "الرفاه مجدداً" وحزب "المساواة وديموقراطية الشعوب" الموالي للكرد، بلديتين من حزب "العدالة والتنمية"، وحصل كل من حزب "الجيد" وحزب "الوحدة الكبرى" على واحدة.
وانخفض إجمالي معدل التصويت لحزب "العدالة والتنمية"، الذي كان الحزب الأول في تركيا من 44.33% من الأصوات في الانتخابات المحلية 2019، إلى 35.48% في الانتخابات الأخيرة، التي تصدّرها حزب الشعب الجمهوري بنسبة 37.7% من الأصوات.
المخالفات البلدية
بالتزامن مع استمرار اعتراضات حزب "العدالة والتنمية" لدى المجلس الانتخابي الأعلى في البلديات التي خسرها بفارق ضئيل من الأصوات، بدأ حزب "الشعب الجمهوري" بالإعلان عن التجاوزات في البلديات التي انتقلت رئاستها إليه في الانتخابات الأخيرة، ليزيد من الضغوط الشعبية على الحكومة التركية المنهكة من المطالب المعيشية لمؤيّديها والتظاهرات المنادية لقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل.
وتصدّرت أخبار هدر الأموال وتجاوزات المناقصات ومخالفات المبيعات في بلديات أوسكودار وتوزلا وبيكوز وتشيكمكوي وأيوب سلطان عناوين وسائل الإعلام المعارضة، ومنشورات الناشطين الأتراك الذين تداولوا هذه الأخبار على نطاق واسع.
وشكّل فوز مرشّحة حزب "الشعب الجمهوري"، سينيم ديديتاش، برئاسة بلدية منطقة سكودار في اسطنبول إحدى مفاجآت الانتخابات، كون المنطقة المعروفة بطابعها السكاني المحافظ أحد معاقل "العدالة والتنمية" في العاصمة الاقتصادية لتركيا. لكن المفاجأة الكبرى تجّلت في كشف رئيسة البلدية عن قيام سلفها حلمي تركمان، من حزب "العدالة والتنمية" بتوقيع 3 عقود شراء، الأول لشراء معجّنات بقيمة مليون و920 ألف ليرة تركية (60 ألف دولار أميركي تقريباً) في 26 آذار (مارس)، والثاني لشراء أكواب خزف مطبوعة بقيمة 4 ملايين و704 آلاف ليرة تركية (147 ألف دولار) في 15 آذار (مارس)، والثالث لشراء الحلوى بقيمة مليوني ليرة تركية (62.5 ألف دولار) في 2 نيسان (أبريل)، أي بعد يومين من الانتخابات.
وفي بلدية توزلا، القريبة من اسكودار، والتي انتزعتها المعارضة في الانتخابات الأخيرة، وقّع رئيسها الخاسر على عقد لشراء "مجموعة هدايا" بقيمة 2 مليون و943 ألف ليرة تركية (29 ألف دولار)، وذلك بعد يومين من خسارته الانتخابات وقبل تسليم منصبه لخلفه من المعارضة.
كما قام في اليوم ذاته بتوقيع عقد مناقصة "لبناء منتزه" بقيمة 62 مليوناً و458 ألف ليرة تركية (مليوني دولار) لصالح شركة مقرّبة من حزب "العدالة والتنمية".
وعلى خطى بلدية توزلا، قامت بلدية سنجق تيبي، التي انتقلت هي الأخرى من "العدالة والتنمية" إلى حزب "الشعب الجمهوري"، بتوقيع عقد لشراء "مركبات الخدمة الكهربائية" قبل ثلاثة أيام من الانتخابات، بمبلغ مليون و755 ألف ليرة تركية (55 ألف دولار)، وبعد الانتخابات، أغلق رئيس البلدية الخاسر خيمة الإفطار الرمضانية التي أقامها لتوزيع الوجبات على المحتاجين وعابري السبيل.
وبالمثل، قامت بلدية أيوب سلطان في اسطنبول في 25 آذار (مارس) بتوقيع عقد مناقصة "لتوريد السجاد لدور العبادة في المنطقة" بقيمة مليون و971 ألف ليرة تركية (61.5 ألف دولار)، وآخر لشراء كتب بقيمة مليون و490 ألف ليرة تركية (46.5 ألف دولار).
أما بلدية بيكوز في اسطنبول، فقد وقّعت في 29 آذار (مارس) عقداً لشراء "مجموعات ألعاب"، بقيمة مليون و800 ألف ليرة تركية (56 ألف دولار). وبدورها، وقّعت بلدية تشيكميكوي قبل الانتخابات بيومين عقداً "لصيانة وإصلاح المباني الخدمية" بقيمة 30 مليوناً و19 ألف ليرة تركية (950 ألف دولار).
وفي بلدية بوزبي بولاية بورصة، قام رئيس البلدية الخاسر بإنهاء عقود بعض الموظفين ودفع تعويضاتهم المالية على الفور قبل وصول خَلَفه من المعارضة، مصطفى بوزبي، الذي فسّر الفعل بأنّه محاولة تستّر على آلاف الموظفين غير العاملين من الذين تمّ تخصيص رواتب لهم على خلفية انتماءاتهم السياسية للحزب الحالكم أو حلفائه، أو دينية، للجماعات والطرق المقرّبة من السلطة.
وبالمثل قام رئيس بلدية يوزغات الخاسر بصرف مبلغ 18 مليون ليرة تركية (562 ألف دولار) من خزائن البلدية لصالح لاعبي كرة القدم في فريق يوزغات بوزوكسبور كمكافأة قبل يومين من الانتخابات، مصفّراً ميزانية البلدية.
وقال رئيس البلدية الفائز عن حزب الشعب الجمهوري "لا توجد ليرة واحدة مال في الخزينة لدفع رواتب الموظفين والعاملين، هناك 418 موظفاً تمّ توظيفهم خلال السنوات الأخيرة لم تطأ أقدام أي منهم البلدية يوماً".
فضيحة "الجاكوزي"
أما قنبلة المفاجآت فقد تجلّت في القضية التي باتت تُعرف في البلاد باسم "فضيحة الجاكوزي"، حينما كشف الرئيس الجديد لبلدية سنجق تيبي، التي فاز بها حزب "الشعب الجمهوري" بعد عقود من رئاستها من قِبل "العدالة والتنمية"، عمّا سماه "البزخ والترف" العثماني، حيث كشف عن امتداد الطابق الرئاسي للبلدية على مساحة 6000 متر مربع يتوسّطه حوض جاكوزي يتّسع لـ4 أشخاص، وغرف ترفيهية على جانبيه مع مطبخ بمساحة 200 متر مربع.
وعلى إثر الضجة التي أحدثها الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي، أعلن مكتب المدّعي العام في اسطنبول تحقيقاً قضائياً للتقصّي عن "الأخبار الشائعات".
معونات البلديات
تُظهر أرقام وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية التركية لعام 2023 عن صرف 43 مليار ليرة تركية من ميزانية الدولة للمساعدات الاجتماعية في عام 2023، بزيادة 7 أضعاف عن عام 2018، حيث تستفيد نحو 5 ملايين أسرة في البلاد، أي حوالى 20 مليون شخص، من المساعدة الاجتماعية، ما يعني أنّ ربع سكان البلاد باتوا يحصلون على المساعدة الاجتماعية.
وقد طغت وعود المساعدات الاجتماعية على المشاكل العامة، ولا سيما الاقتصادية، وحلولها في الحملات الانتخابية لرؤساء البلديات، حيث برزت وعود المرشحين بتقديم مساعدات اجتماعية لمكافحة الفقر إلى الواجهة، وركّز مرشحو السباق الانتخابي، في المدن الكبرى بشكل خاص، على فئات الدخل المنخفض مثل المتقاعدين والطلاب الذين يعانون من التضخم وارتفاع الأسعار.
بالإضافة إلى المساعدات الاجتماعية، وبما أنّ معظم فترة الحملة الانتخابية تزامنت مع شهر رمضان، فقد حاول المرشحون في مختلف أنحاء البلاد الوصول إلى الناخبين من خلال خيام الإفطار والسلال الغذائية، فيما استغل حزب "العدالة والتنمية" المساعدات الاجتماعية المقدّمة من قبل مؤسسات الدولة المختلفة، وبخاصة وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية، للدعاية لصالح مرشّحيه.
في المقابل، برزت بلديات اسطنبول وأنقرة وأزمير، الأكبر في البلاد، من خلال قدرتها على مساندة البلديات الصغيرة الأخرى التابعة لحزب الشعب الجمهوري في تقديم المساعدات والخدمات الاجتماعية، مستغلّة قدراتها وإمكاناتها الكبرى وميزاتيّاتها العالية.
يُذكر أنّ البلديات التي فاز بها حزب "الشعب الجمهوري" تشكّل 80% من مجموع الواردات المالية والضريبية العامة للبلاد، ما يمنحها ميزة وقدرة مالية كبيرة بعد اليوم، مقابل انحسار إمكانات السلطة التي باتت محصورة بالميزانيات الحكومية فقط.