اكتسب اللقاء المغلق أمام الصحافة، الذي جمع بين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان والزعيم السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في إسطنبول، أهمية كبيرة لتزامنه مع تصاعد التوترات بين إيران وإسرائيل في الشرق الأوسط، وتعثّر جهود وقف إطلاق النار في غزة.
لكن ما جعل من هذا اللقاء حدثاً استثنائياً هو تزامنه مع تقارير تركية ودولية حول نيّة "حماس" نقل مكاتبها من مقرّها الرئيسي في العاصمة القطرية الدوحة إلى تركيا، مجددة الحوارات حول الضغوط الأميركية على قطر من جهة والخلاف المتزايد بين الجناحين السياسي والعسكري في الحركة من جهة أخرى.
حماس تفعّل مكاتبها في تركيا
عزّز الخبر الذي كشفت عنه صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية حول بحث القيادة السياسية لحركة "حماس" احتمال نقل مقرّها في قطر إلى الخارج، الأنظار نحو زيارة هنية إلى تركيا بتوقيت متقاطع مع زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لها، مؤكّدة التحليلات التي تحدّثت عن احتمال أن تكون تركيا الوجهة الجديدة لقادة "حماس" السياسيين، وتسلّم أنقرة راية الوساطة في المفاوضات بدلاً من الدوحة التي باتت تعاني من ضغوط أميركية ومن خلفها إسرائيلية هائلة.
نفت حركة "حماس" صحّة الادعاءات الواردة في الصحيفة الأميركية، والتحليلات المرافقة لها، على لسان أكثر من مسؤول سياسي وإعلامي، لتعيد إلى الذاكرة نفي عضو قيادتها السياسية صلاح البردويل في عام 2011 نيّة الحركة نقل مكاتبها من دمشق، وذلك قبل عام من إغلاق هذه المكاتب وانتقال قادتها وكوادرها إلى الدوحة.
في المقابل، أكدّ الصحافي التركي مصطفى سيف الله كيليج، في حديث لـ"النهار العربي" عودة مكاتب "حماس" في تركيا إلى نشاطها السابق، إضافة إلى عودة قادة سياسيين في الحركة كانوا قد رحلوا عن تركيا بطلب من أنقرة قبل أشهر.
وقال كيليج، الذي يترأس تحرير موقع "آسيابرس تركيا" الإخباري، "من خلال مصادري في المكتب الإعلامي لحركة "حماس" في تركيا، تأكّدت من إعادة الحركة فتح عدد من مكاتبها، إضافة إلى عودة اثنين من قادتها السياسيين كانا قد رحلا عن تركيا إلى البوسنة سابقاً قبل الانتقال إلى وجهة ثالثة".
ووفق كيليج، فإنّ "قرار تفعيل المكاتب جاء نتيجة للتطوّرات الأخيرة، وليس من الصحيح الحديث عن نقل المكاتب من الدوحة، لأنّ "حماس" أصلاً لديها مكاتب سياسية وإعلامية فاعلة في تركيا منذ سنوات، لكن هذه المكاتب تمّ إغلاق بعضها قبل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) وبعضها غداة الهجوم".
وأشار إلى أنّ البعض من قادة "حماس" الذين التقيتهم، يؤكّدون شعورهم بالأمان في تركيا أكثر من الدوحة، لاعتقادهم بأنّ تحرّكاً من قِبل الموساد ضدّهم في تركيا سيكون أبعد احتمالاً من حدوثه في قطر.
دور أميركي لتركيا
استبق وزير الخارجية التركي هاكان فيدان زيارة هنية إلى تركيا بالإعلان عن استعداد "حماس" لإلقاء سلاحها مقابل إنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967، وذلك عقب لقائه بهنية في الدوحة منتصف الأسبوع الماضي، ليؤكّد الأخير خلال مقابلة مع وكالة أنباء الأناضول الاثنين، ترحيب حركته "بأي قوة عربية أو إسلامية إذا كانت مهمّتها مساندة شعبنا الفلسطيني ومساعدته في التحرّر من الاحتلال".
تصريح فيدان المتزامن مع إعلان قطر إعادة النظر في دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس"، وموقف هنية المعلن من تركيا، يؤكّدان صحة التحليلات التي ذهبت إلى تسلّم أنقرة راية الوساطة من قطر كشريك للقاهرة التي أرسلت وزير خارجيّتها للقاء فيدان قبل ساعة من مشاركة الأخير في الاجتماع بين هنية وإردوغان.
يؤكّد كيليج في حديثه لـ"النهار العربي" على وجود "دور لتركيا في الوساطة بين إسرائيل و"حماس" تمّ تصميمه من قِبل الأميركيين، ومنحها الضوء الأخضر في هذه العمليّة التي لن تظهر نتائجها في المستقبل القريب، لكن معالمها ستتضّح بعد زيارة أردوغان إلى واشنطن ولقائه جو بايدن في المكتب البيضاوي في التاسع من أيار (مايو) المقبل".
ترى واشنطن في حليفتها الأطلسية أكثر قدرة وكفاءة من الحليف القطري من خارج الأطلسي على توليد الحلول، من خلال ممارسة بعض الضغوط على قادة "حماس" إن لزم الأمر للوصول إلى نتائج، بعد وصول العملية التفاوضية التي ترعاها عبر مصر وقطر إلى طريق مسدود.
لكن مصدراً إعلامياً مقرّباً من حركة "حماس" وعلى تواصل مع قادتها كشف لـ"النهار العربي"، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه لحساسية الموقف، عن "وجود تباين في الرأي بين الجناحين السياسي والعسكري في الحركة حول مقترحات اتّفاق وقف إطلاق النار، حيث يتّهم الجناح العسكري المتواجد داخل الأراضي الفلسطينية نظيره السياسي في الحركة بالتساهل في مواقفه بشكل قد يؤدي إلى ضياع المكاسب التي حققها هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)".
ووفق المصدر فإنّ "تركيا تحاول استعادة ثقة الجناح العسكري المقرّب من إيران، من خلال الإعلان عن تقييد التجارة مع إسرائيل في بعض القطاعات، وإرسال سفينة مساعدات وكسر حصار غزة، إضافة إلى تصريحات إردوغان العالية السقف مؤخّراً، وبخاصة حينما شبّه "حماس" بمجموعات التحرّر الوطني التركي التي قاتلت الاستعمار الغربي بعد الحرب العالمية الأولى، تحضيراً للإعلان عن الجمهورية التركية المستقلة".
ويرفض كيليج "توصيف الخلاف بشكل تقليدي بأنّه بين الجناحين السياسي والعسكري" قائلاً، إنّ "الخلاف أعمق من ذلك، فهناك في الجناحين السياسي والعسكري قادة بمواقف مرنة مقابل متشدّدين في الجناحين أيضاً، وهذا ما يفسّر عدم علم قادة في الجناحين السياسي والعسكري بتفاصيل هجوم "طوفان الأقصى" وموعده، بما فيهم الدول المقرّبة من الحركة كقطر وتركيا وإيران".
ويشرح كيليج أنّ "ما تسعى إليه واشنطن حالياً هو إنزال كل من "حماس" وتل أبيب عن الشجرة، حيث فشلت إسرائيل في تحقيق الأهداف التي أعلنتها في الحرب من تحرير الرهائن والقضاء على "حماس"، واقتنعت بأنّ القضاء على الحركة أشبه بالمستحيل، كما أنّ "حماس" باتت تدرك بأنّ التعنّت في موقفها سيؤدي إلى زوالها عن الخريطة السياسية الفلسطينية، بخاصة في ظل إصرار إسرائيل على اقتحام رفح" آخر معاقل "حماس" في غزة، وهي المسألة الأكثر حساسية لمصر أيضاً.
ويعتقد كيليج أنّ "حماس ستقدّم حل الدولة الفلسطينية كانتصار لها نتيجة هجومها الأخير، ومبرراً لتراجعها عن مواقفها السابقة، بخاصة أنّها ستقوم بحل الجناح العسكري ضمن قوات شرطة ومكافحة شغب فلسطينية، وفي المقابل ستسوّق الحكومة الإسرائيلية للتوصل إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار وتحرير الرهائن كانتصار لها، تحقيقاً للأهداف التي أعلنت عنها".
وأضاف: "كما أنّ هذا الحل المقبول غربياً وأميركيا سيمهّد الطريق أمام تطبيع دول عربية جديدة مع تل أبيب على قاعدة العلاقات الدبلوماسية، مع كل من إسرائيل وفلسطين المجاورتين".
ويربط كيليج الدور التركي للوساطة بالمنح المالية التي أعلن عنها البنك الدولي لتمويل عدد من المشاريع في تركيا الغارقة في أزمتها الاقتصادية، قائلاً إنّ "هذه المبالغ كان من المنتظر وصولها قبل نهاية العام الماضي، وعلى أساسها قامت تركيا بالتضييق على بعض قادة "حماس" ونشاط الحركة الاقتصادي على أراضيها، لكن هجوم "حماس" أفسد الخطّة وأخّرها حتى منتصف نيسان (أبريل) الجاري، حيث وافقت واشنطن على تفعيل المساعدات المالية الدولية والبالغة قيمتها 35 مليار دولار، مقابل تعهّد تركيا بالمضي قدماً في خطة تهجين حماس".
وكانت صحيفة "دي فيلت أم زونتاج" الألمانية قد اتّهمت تركيا، استناداً إلى مصادر استخباراتية، بلعب دور في الأنشطة المالية لحماس من خلال البنوك والشركات التركية وتلك العاملة في تركيا لصالح الحركة، إضافة إلى توصيل الدعم المالي الذي تقدّمه إيران لحماس إلى غزة أو الضفة الغربية عبر تركيا، كاشفة عن طرق غسل الأموال في تركيا.
وأعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عن "ملاحقة بلاده لممولي "حماس" وإرهابها، لهدم البنية المالية للحركة من خلال العقوبات وقطع تمويلها الخارجي ومنع وصولها إلى قنوات تمويل جديدة". وشدّدت الإدارة الأميركية موقفها تجاه "حماس" ومؤيديها بسلسلة من العقوبات بعد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كما تمّ إدراج أفراد وشركات عاملة في تركيا في قائمة العقوبات.
وفي رسالة إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن نهاية تشرين الأول (أكتوبر)، دعا أعضاء الكونغرس الأميركي إدارة بايدن إلى "اتخاذ إجراءات عاجلة لمحاسبة تركيا على دورها في دعم وتسهيل عمليات حماس".
لكن كل هذه الخطوات اختفت فجأة من جدول أعمال واشنطن، بل على العكس، بدأ الحديث عن إزالة تركيا من "القائمة الرمادية" للدول المنخرطة في نشاطات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهي الدرجة ما قبل السابقة للقائمة السوداء التي تستدعي محاصرة الدولة المعنية مالياً، من خلال العقوبات على نظامها المالي وقادتها السياسيين.