حسمت الإدارة الأميركية الجدل الذي أحدثته أنباء إرجاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارته للبيت الأبيض، والمعلن سابقاً أنها كان من المقرر إجراؤها في التاسع من أيار (مايو)، بالتأكيد أن الزيارة لم تُلغَ؛ بل تأجّلت إلى موعد يحدد لاحقاً بالتنسيق بين البلدين.
وعلى الرغم من تبرير أنقرة لخطوة الإرجاء بالحديث عن تضارب في برنامج أردوغان، إلا أن الخطوة ترتبط بعوامل سياسية داخلية وخارجية في كلا البلدين، وما نتج منها من تطوّر في المواقف من جهة، والملفّات العالقة بينهما من جهة أخرى.
تأكيد أميركي لحتمية الزيارة
خلال لقائه بوفد مجلس الأعمال التركي الأميركي (TAIK) في أحد فنادق إسطنبول يوم الجمعة 26 نيسان (أبريل)، أكّد سفير الولايات المتحدة في أنقرة جيف فليك تواصل الاستعدادات لاجتماع الرئيس التركي مع نظيره الأميركي في البيت الأبيض.
وكشف فليك عن نيّة بلاده "إصدار بيان رسمي حول الزيارة قريباً".
ورداً على سؤال حول سبب عدم صدور بيان رسمي بشأن الزيارة حتى الآن، قال فليك: "قبل الزيارة، يتّفق الطرفان أولاً على الموعد ثم تبدأ الاستعدادات. سيتم الإعلان الرسمي عن الزيارة في موعد قريب لإجرائها. هذا ليس إجراءً خاصاً بتركيا أو بزيارة السيد أردوغان، فالأمر يتم دائماً على هذا النحو".
وبالعودة إلى تصريح المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، الأسبوع الماضي، فإنه "لا شيء مبرمجاً" بشأن زيارة أردوغان، وتأكيد فليك الأخير حتمية الزيارة، يفهم منه بأن الجانب الأميركي يحاول كسب الوقت لحل الخلافات بشأن الملفات الإشكالية بين الطرفين، أي الجوانب المتعلقة بمضمون الزيارة وشكلها، وسط إشارات إلى وجود أطراف في كل من أنقرة وواشنطن راغبة بإتمام الزيارة وأخرى غير متحمّسة لها.
إعادة بناء الثقة
من اللافت للانتباه أن الإعلان عن الزيارة، ومن ثم إرجائها، تمّ من قبل الطرف التركي، دون صدور أي تصريح أميركي حول الموضوع.
وسرّب موقع "أودا تي في" التركي خبر إلغاء الزيارة قبل أكثر من أسبوع، ليشعل الجدل حول أسباب هذا التأجيل ودوافعه، ويسلّط اهتمام كبرى وكالات الأنباء العالمية التي بدأت بتداول الخبر وتصريحات مسؤولين أتراك دون تسميتهم أفادوا بتأجيلها لأسباب تتعلّق بجدول أعمال الرئيس التركي ولقاءاته.
وكانت أنقرة قد اشترطت لقاء موافقتها على انضمام السويد إلى حلف الشمال الأطلسي، الحصول على مقاتلات إف-16، وأيضاً، دعوة الرئيس التركي إلى البيت الأبيض.
وتزامن الإعلان التركي عن توقيت الزيارة في 9 أيار مع تغيير أردوغان خطاب الانتقاد المستمر لأميركا والدول الغربية، التي استغلّها كثيراً في سياسته الداخلية، إلى لغة توحي بالرغبة في مد الجسور مع الغرب والتوجّه نحوه لتجاوز الأزمة الاقتصادية التي تجتاح بلاده وتهدده بالانهيار، لذا فإن مصافحة بايدن في المكتب البيضاوي كانت لتغدو رسالة طمأنة هامة للجهات الاستثمارية الداخلية والخارجية.
حملة إعادة الثقة المتبادلة بين أنقرة وواشنطن بدأت من قبل تركيا، التي أوفدت مدير استخباراتها الوطنية إبراهيم كالين، ومن ثم وزير خارجيتها هاكان فيدان، إلى الولايات المتحدة في بداية آذار (مارس) الماضي في خطوة لم تخلُ من الدعاية الانتخابية أيضاً.
وقابلت واشنطن التحرّكات التركية من خلال زيارات متلاحقة لمسؤوليها لأنقرة، حيث وصل في 15 نيسان إلى أنقرة نائب وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، أي الرجل الثالث في الوزارة، تبعه منسّق مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأميركية في 22 نيسان.
وحسب المعلومات التي حصل عليها "النهار العربي" من مصدر إعلامي مقرّب من الحكومة التركية، فإن دعوة أردوغان لزيارة البيت الأبيض نقلها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال لقائه فيدان أثناء زيارة الأخير للولايات المتّحدة.
خلاف على التفاصيل
الإعلان عن السبب "غير المقنع" لإرجاء زيارة أردوغان لواشنطن، فتح المجال أمام التكهّنات والتحليلات التي اتّفقت معظمها على إرجاع التأجيل أساساً إلى الفشل في التوصّل إلى حل وسطي أثناء عملية التفاوض، واختلفت في تفاصيل بنود التفاوض.
في حديثه إلى "النهار العربي"، يكشف الخبير الأمني والعسكري التركي، سعاد ديلغين، عن اعتقاده بكون إحدى نقاط الخلاف بين البلدين خطوات تركيا الأخيرة في ما يخصّ العراق والعملية العسكرية التي تعتزم أنقرة القيام بها في كل من شمال العراق وسوريا.
قد تكون أنقرة التي سعت إلى تقديم نفسها لواشنطن كقوّة قادرة على ضبط التأثير الإيراني في العراق بعد مغادرة الجنود الأميركيين من البلاد، لم تجد بالمقابل الدعم الكافي لمطالبها بشأن وجود حزب العمال الكردستاني في العراق والأطراف التي تعتبرها امتدادات لها في سوريا.
من جانبه، علّق الكاتب والصحافي التركي سونر تشاغابتاي في موقع "إكس" (تويتر سابقاً)، قائلاً إن "الزيارة لم تتم لأن مطالب أردوغان، وخاصة تلك المتعلّقة بالاتفاقيات التجارية، لم تُلبّها واشنطن".
واصلت الولايات المتّحدة الضغوط على أنقرة مطالبة إياها باتّخاذ إجراءات أكثر جدية للحد من محاولات روسيا للالتفاف على العقوبات الأوروبية عبر تركيا. ومع التزام أنقرة بنسبة لا بأس بها من هذه المطالب، ومن بينها إيقاف المصارف التركية التعامل ببطاقة "مير" الائتمانية الروسية، ورفضهم إجراء التحويلات المالية للتعاملات التجارية بين البلدين، قدّمت في المقابل بعض المطالب الاقتصادية ومن بينها، على سبيل المثال، إلغاء الولايات المتحدة للرسوم الجمركية على منتجات الحديد والصلب التركية، لكن على الرغم من اتّخاذها قرارات مماثلة بالنسبة لبعض الدول، أصّرت واشنطن على إبقاء هذه الرسوم عند مستوى 25% بالنسبة للصلب المستورد من تركيا.
واستبدلت واشنطن المطالب التركية بعرض لشراء قذائف مدفعية تعود إلى حقبة الحرب الباردة من تركيا لاستخدامها في أوكرانيا، على أن تقوم شركة تركية بإنشاء مصنع في الولايات المتحدة بهذا الهدف، بالإضافة إلى إعطائها الضوء الأخضر لإزالة تركيا من "القائمة الرمادية" للتصنيف المالي الدولي، ما يشجّع الصناديق والمحافظ الاستثمارية الأجنبية على الاستثمار في تركيا، إلى جانب تمويل البنك الدولي لمشاريع بمبلغ 35 مليار دولار في تركيا على مدى 3 سنوات.
ويشير ديلغين إلى سبب خلافي آخر مرتبط بالسياسة الداخلية التركية، قائلاً إن "الوضع الذي نشأ بعد انتخابات 31 آذار، وحقيقة فوز أكرم إمام أوغلو ببلدية إسطنبول بفارق كبير في الأصوات، خلق الظروف اللازمة للولايات المتحدة لتغيير رأيها القائم سابقاً على عدم وجود بديل سياسي للرئيس أردوغان؛ وبالتالي وجوب التعامل معه بطريقة أو بأخرى".
ويشرح ديليغين أنه "أصبحت يد الولايات المتحدة اليوم قوية ضد أردوغان، الذي خسر الانتخابات، وتركيا التي تحتاج إلى تدفّق رأس المال الأجنبي. لذلك، لن يكون من الخطأ الاعتقاد أن الولايات المتّحدة لم تأخذ مطالب الجانب التركي في ما يتعلق بمحتوى الزيارة وتوقيتها بعين الاعتبار".
ووفق ديلغين "يريد الرئيس أردوغان تحويل التعاون الوثيق بين تركيا والولايات المتحدة إلى ربح لمستقبله السياسي. ولهذا السبب، سعى إلى أن يكون نطاق هذا الاجتماع ومحتواه والرسائل التي ستخرج عنه في خدمة هذا الغرض، لكن يبدو أن الجانب الأميركي لا يشاركه وجهات نظر مماثلة".
فيما ترى الصحافية التركية المتخصصة في السياسة الدولية، بارتشين ينانتش، أن "الجانب التركي يبدو حريصاً على أن تتم الزيارة بعد فترة من إقرار الدعم الأميركي لإسرائيل، بدلاً من توقيت 9 أيار الذي يتزامن مباشرة مع موافقة مجلس النواب الأميركي على حزمة المساعدات العسكرية البالغة 26 مليار دولار لإسرائيل".
يعتقد فريق مقرّب من الرئيس أردوغان أن قضية غزة التي كانت الحاضر الأساسي في حملة "حزب الرفاه مجدداً" الانتخابية لعبت دوراً مهماً في اقتراب الحزب من عتبة 5% من الأصوات في جميع أنحاء البلاد، لذا فإن التقاط الصور مع بايدن في هذا التوقيت من شأنه أن يشوّه من صورة "حزب العدالة والتنمية" ورئيسه أمام الرأي العام التركي، الذي حاول تدارك نزيف الأصوات من خلال فرض حظر تجاري لبعض القطاعات مع إسرائيل بعد الانتخابات مباشرة، وسط توقّعات بتحوّله إلى حظر تجاري شامل مع استمرار الضغوط الداخلية.
يبدو أن كلا الجانبين التركي والأميركي وجدا العذر الذي كانا يبحثان عنه لعدم إتمام هذه الزيارة. قد تشير واشنطن إلى استقبال أنقرة لإسماعيل هنية، رئيس حركة "حماس" التي تعتبرها إرهابية، كمبرر لموقفها البارد من حليفتها الأطلسية، بينما يمكن لأردوغان الاستشهاد بقرار الكونغرس الأميركي بإرسال مساعدات عسكرية لإسرائيل كسبب لإرجاء زيارته، ما يعني حصول بايدن على استعطاف اللوبي الإسرائيلي ودعمه في بلاده قبل الانتخابات، مقابل حصول أردوغان على استعطاف ودعم اللوبي المناهض لإسرائيل في تركيا والعالم الإسلامي.
وفي حال فشل جهود الأطراف المتحمّسة لعقد هذا اللقاء في كل من تركيا (الإدارة المالية والاقتصادية خاصة)، والولايات المتّحدة (مؤسسة الخارجية)، فإن زيارة أردوغان القادمة لواشنطن قد تتم بعد وصول الرئيس الأميركي الجديد إلى البيت الأبيض في بداية عام 2025، أو الانتهاء من الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024.