النهار

بعد تنفيذ إمام مسجد تركي عملية بالقدس: راية فلسطين تنتقل من اليسار إلى الإسلاميين؟
سركيس قصارجيان
المصدر: النهار العربي
تاريخياً تحظى فلسطين برمزية لدى اليسار التركي، كما اليسار العالمي بأكمله، منذ أن اكتسب النضال الوطني الفلسطيني تعاطف ودعم الحركات اليسارية في كل أنحاء العالم منذ الستينات من القرن الماضي
بعد تنفيذ إمام مسجد تركي عملية بالقدس: راية فلسطين تنتقل من اليسار إلى الإسلاميين؟
تظاهرات في تركيا دعماً للفلسطينيين.
A+   A-
دفعت الحرب التي اندلعت عقب عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حركة "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فئات واسعة من المجتمع التركي، كما في العديد من أنحاء العالم، إلى الشوارع، تعبيراً عن الغضب والرفض الشعبي لجرائم الجيش الإسرائيلي بحق الغزّاويين، في وحدة شعبية قلّ نظيرها خلال العقود الأخيرة في البلاد، بسبب سياسات الاستقطاب المتّبعة من الرئيس رجب طيب إردوغان.
 
وفي حين حافظت شريحة القوميين العلمانيين، التي تمثّلها سياسياً أحزاب اليمين الوسط المتعاقبة على حكم البلاد منذ تأسيس الجمهورية وحتى وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم في بداية القرن الحالي، على وسطيتها مع الوقوف على مسافة واحدة من كل من تل أبيب وغزة، التقى اليمين واليسار التركي للمرّة الأولى في قضية عابرة للحدود احتجاجاً ضدّ إسرائيل وإظهار التضامن مع فلسطين.
 
هل تسلّم اليمين التركي زمام القضية الفلسطينية؟
تاريخياً تحظى فلسطين برمزية لدى اليسار التركي، كما اليسار العالمي بأكمله، منذ أن اكتسب النضال الوطني الفلسطيني تعاطف الحركات اليسارية ودعمها في كل أنحاء العالم منذ الستينات من القرن الماضي، وتحوّلت معسكرات الجماعات الفلسطينية المسلحة إلى وجهة تلقّت فيها العديد من التنظيمات اليسارية التدريبات العسكرية، من اليابان شرقاً وحتى ألمانيا غرباً.
 
وشارك الشباب الاشتراكي التركي، بخاصة جيل 1968، في النضال من أجل القضية الفلسطينية، فدخل دنيز غيزميش وأصدقاؤه فلسطين بشكل غير شرعي في مجموعتين، منضمّين لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهكذا ظل اليسار التركي ينظر إلى القضية الفلسطينية من وجهة نظر مزدوجة: سياسية قائمة على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإعلان دولته، واقتصادية تستند إلى خطاب مناهض للإمبريالية وتدعم "الفلسطينيين الفقراء ضدّ الإسرائيليين الأغنياء".
 
 
ونتيجة لذلك، دفع اليسار التركي أثماناً باهظة على خلفية موقفه الداعم للقضية الفلسطينية، اذ تعرّض أفراده للملاحقات القضائية والأمنية لسنوات طويلة من قبل اليمين الأطلسي الممثل بالأحزاب الليبرالية، إلى حين تناول الأحزاب والمنظمات الإسلامية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي الملف برؤية قريبة لليسار الاشتراكي، حتى باتت القضية الفلسطينية الأجندة المشتركة الوحيدة لليسار والإسلاميين في تركيا.

لكن عملية الطعن التي نفّذها حسن سكلانان، إمام المسجد في مدينة أورفا التركية، في مدينة القدس ضدّ عنصر أمن إسرائيلي قبل أن يُقتل برصاص رفيق سلاح القتيل، بتاريخ 30 نيسان (أبريل) الماضي، تشير إلى تحوّل في الدعم المسلّح التركي للقضية الفلسطينية من اليسار الاشتراكي إلى اليمين الإسلامي.
 
سكلانان، الذي ذهب إلى القدس ضمن وفد سياحي ديني تركي، ألهم بفعلته ومقتله مشاعر الإسلاميين الأتراك، وتحوّل إلى مفخرة لوسائل الإعلام الإسلامية داخل البلاد، والتي سلّطت الضوء بشكل واسع على كونه إمام مسجد، ومتحدّراً من خلفية دينية وعائلة تركية محافظة. 
 
جواز سفر السائح التركي إمام المسجد حسن سكلانان
 
ويرى الباحث التركي في دراسات الشرق الأوسط والأمن الدولي محمد عاكف كوتش، في تصريحات لـ"النهار العربي" أنّ "اليسار التركي يفتقد إلى التأثير في القضية الفلسطينية منذ فترة طويلة. في المقابل، هناك تأييد لفلسطين بين اليمين الإسلامي في تركيا بكل فصائله، ويختلف حجم هذا التأييد من جماعة إلى أخرى، لكن لا أعتقد أنّ فئات اليسار العلماني تستطيع فهم القضية الفلسطينية بعمق. وهناك حساسية مرتبطة بالشعارات في اليمين، ولكن الافتقار نفسه إلى العمق موجود أيضاً لدى اليمين التركي".
 
الباحث محمد عاكف كوتش
 
"قضيتهم" لا قضية فلسطين!
من جهته يقول الصحافي التركي ابراهيم فارلي، في تصريحات لـ"النهار العربي": "خلال الفترة الماضية، ومع صعود الحركات الإسلامية بمساعدة الإمبريالية الأميركية، أصبح لهذه التيارات صوت بشأن فلسطين، لكن ذلك تمّ على أساس تعزيز قضيّتهم من خلال أدب "الضحية" بدلاً من احتضان القضية. وبينما كان الجهاديون الأصوليون يبذلون دماءهم في الشرق الأوسط وسوريا والعراق، لم يطلقوا رصاصة واحدة على إسرائيل، بل كان الكثيرون منهم يعملون في الباطن لصالحها، وما زالوا يفعلون ذلك".
 
وبرأي فارلي أنّ "اللغة المستخدمة في الداخل تغذي الكراهية ضدّ إسرائيل، إلّا أنّها يمكن أن تمهّد الطريق أيضاً لهجمات وأفعال فردية. الفلسطينيون والقضية الفلسطينية بحاجة إلى موقف جماعي، وليس إلى هذا النوع من العنف الفردي"، معتبراً أنّ "الإدلاء بتصريحات استعراضية خلال التعامل مع إسرائيل علامة على عدم الاتّساق".
 
منطق جهادي يدعو إلى تدمير الآخر
يميل الأتراك إلى أدلجة القضايا التي يشعرون بضرورة التعاطي معها مهما يكن نوعها أو طبيعتها، سواءً كانت ذات بعد سياسي أو تاريخي أو دولي، فيما يسعى بعض الذين يتعاملون مع أي قضية ببعدها المنطقي والعقلاني إلى ضرورة إضفاء الشرعية على موقفهم الشخصي من خلال الحجج الأيديولوجية المستخلصة من المحيط الاجتماعي لضمان القبول الشعبي والتأييد الجماهيري لها.
 
وتُعتبر القضية الفلسطينية من الملفّات القليلة جداً، إن لم نقل النادرة، التي شكّلت نقطة التقاء لليمين واليسار التركيين، مع اختلافات دوافع وأساليب وخطابات دعمها إلى حدّ كبير.

لكن كوتش، مؤلف العديد من الكتب والدراسات السياسية، لا يعتقد بأنّ اليسار التركي يدعم فلسطين برمّتها، "بل إنّه يعيد إحياء بعض الحنين إلى فترة الحرب الباردة، ولا يمكن الحديث عن إطار أيديولوجي شمولي ومحدّث".
 
ويشير إلى وجود "مراكز قوى مختلفة في ما يسمّى بالجناح اليميني، وثمة بعض التصريحات الصادرة عنها يمكن التشكيك في صدقيّتها، حيث في بعض المنعطفات الحرجة، تفضّل الجماعات اليمينية المحافظة المصالح التجارية".
 
من جهته يرفض فارلي، وهو مدير تحرير صحيفة "بير غون" اليسارية التركية، فرضية التقاء اليمين واليسار في تركيا في نقطة دعم القضية الفلسطينية. ويقول: "اليساريون، والرجعيون، والمتدينون، والمحافظون، والفاشيون، وباختصار، اليمينيون، لا ينظرون إلى فلسطين من النافذة نفسها. فلا مقارباتهم لجذور المشكلة ولا قراءاتهم للقضية التي نعيشها اليوم هي نفسها. يتعامل المحافظون اليمينيون مع القضية من وجهة نظرهم الخاصة بطريقة غير مكتملة ومشلولة، وهم ليسوا صادقين في موقفهم من هذه القضية، بل ينظرون إليها على أنّها قضية الأمّة فقط. المجموعة الوحيدة التي اهتمت تاريخياً بالقضية الفلسطينية هم الاشتراكيون اليساريون".
 
ويرى فارلي أنّ "دافع المحافظين والإسلاميين واليمينيين للنزول إلى الشوارع ليس ذاته الذي يدفع باليساريين إلى الساحات. لم يحدث ذلك قط، ولن يحدث، ولا توجد قضية أو نقطة مشتركة بين الاشتراكيين اليساريين والمحافظين اليمينيين بشأن فلسطين والعديد من القضايا الأخرى".
 
الصحافي ابراهيم فارلي
 
ويشرح فارلي أنّ "اليساريين يدافعون عن الأممية والتعايش وأخوة الشعوب، بينما يدافع اليمينيون الإسلاميون المحافظون عن أخوة الأمة، ولا يهمّهم إلّا حقوق طرف واحد. وعلى عكس اليمينيين، يدافع اليساريون عن وجود دولة إسرائيل والشعب الإسرائيلي ويدعمون حل الدولتين. ويقف اليساريون والاشتراكيون إلى جانب شعب فلسطين وحقه في الدفاع عن النفس وتقرير المصير. لكنهم يدافعون أيضاً عن حق الشعب الإسرائيلي في الوجود. فيما يعارض اليمينيون والمتدينون والرجعيون "الحق في الوجود" لدولة إسرائيل وشعبها".
 
أضاف: "يرى اليساريون أنّ استهداف المدنيين والتعذيب وأسر الأطفال أمر غير مقبول تحت أي ظرف من الظروف، فيما يرى الأصوليون أنّ كل أنواع الهجمات مشروعة لـ"الجهاد". ويدعون إلى تدمير الآخر".
 
ويرى فارلي أن "اليساريين والاشتراكيين مناهضون للإمبريالية، ويرون أنّ القضية الفلسطينية لا يمكن فهمها من دون الأخذ في الاعتبار ظاهرة الإمبريالية، ويشيرون إلى استحالة دعم القضية الفلسطينية من دون معارضة الإمبريالية، بينما يتحرّك الإسلاميون السياسيون وبقايا (مشروع) الحزام الأخضر الذي ازدهر في أحضان الإمبريالية، وعشاق الأسطول السادس (الأميركي)، مع الولايات المتحدة، أي ليس لدى اليمينيين مشكلة مع الإمبريالية".
 
ويتابع: "المحافظون الأتراك، والرأسمالية التي يمثّلونها، والبورجوازية الكبرى ليس لديهم مشكلة مع إسرائيل. يمكنهم مواصلة أعمالهم الاقتصادية والتجارية بسهولة أكبر وأكثر ربحية من ذي قبل. ومن السهل على القادة اليمينيين المحافظين إقناع الجماهير اليمينية القومية المحافظة بأي قضية، حيث أنّ هؤلاء لديهم ميزة إمكان تعبئة جماهيرهم". 
 
أين اليمين القومي التركي من القضية الفلسطينية؟
وفي حين اكتسبت القضية الفلسطينية زخماً في أدبيات وشعارات كل من اليمين الديني واليسار الاشتراكي التركي مع انفجار حرب غزة، غاب التيار القومي العلماني التركي عن ساحات دعم فلسطين ومناهضة إسرائيل إلى حدّ كبير، في موقف أعاد إلى الأذهان التوافق بينه وبين التيار الديني خلال النصف الثاني من القرن الماضي على كبح تطلّعات اليسار لدعم قضايا الشعوب المستضعفة في المنطقة، ومنهم الفلسطينيون، والتدخّل في الملفات السياسية الإقليمية والدولية وفق منهجية الأطلسي وحلفاء تركيا التقليديين في الغرب.
 
ويرى كوتش أنّ "وجهة نظر القوميين للصراع العربي- الإسرائيلي تشكّلت تاريخياً من خلال المشاعر المعادية للعرب، وأعتقد أنّه ينبغي إجراء المزيد من الدراسات في هذا الموضوع".
 
ويؤكّد فارلي من جهته أنّ "بعض الأوساط القومية ابتعدت عن القضية الفلسطينية بسبب "حماس" والتطورات الناجمة عن السياسات الخاطئة لحكومة حزب العدالة والتنمية في الشرق الأوسط ومسألة تدفّق اللاجئين إلى تركيا".
 

اقرأ في النهار Premium