بعد 8 سنوات من الاعتقال و83 جلسة استماع، أعلن القضاء التركي أحكامه في "قضية كوباني"، التي شملت محاكمة 108 أشخاص، 72 منهم فارون، و18 مطلق سراحهم تحت المحاكمة، و18 معتقلون، بينهم الرئيسان المشتركان السابقان لحزب الشعوب الديموقراطي وأعضاء في مجلس القيادة العليا للحزب.
حُكم على الرئيسين المشتركين السابقين لحزب الشعوب الديموقراطي، صلاح الدين دميرتاش بالسجن لمدة 42 عاماً، وفيغين يوكسكداغ بالسجن لمدة 30 عاماً و3 أشهر. وصدر أمر بالإفراج عن غولتان كيشاناك، وصباحات تونجل، وأيلا أكات آتا، لتجاوز مدة حكمهم في الاعتقال.
الأحكام المشدّدة التي صدرت في القضية أحدثت صدمة سياسية في البلاد، منهية التكهّنات بإمكان الانتقال إلى "عهد الليونة" التي تحدّث عنها الرئيس التركي، وإطلاق مسار جديد للسلام وحل المشكلة الكردية كما كانت تشير التوقّعات مؤخّراً.
دميرتاش للقضاء: نحن رهائن سياسيون
يعود أساس القضية التي سُمّيت باسم مدينة كوباني (عين العرب) إلى الأحداث التي شهدتها تركيا بين 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 و8 منه، حين دعا حزب الشعوب الديموقراطي أنصاره عبر رسالة نشرها على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي للنزول إلى الشارع، للضغط على الحكومة وإرغامها على فتح ممر للأسلحة والإمدادات إلى القوّات الكردية المدافعة عن المدينة المحاصرة من قبل "داعش"، الذي سيطر على نحو 350 قرية حتى كانون الأول (ديسمبر) 2014، مجبراً 150 ألف شخص من كوباني على الفرار إلى تركيا.
أدّت الأحداث التي رافقت التظاهرات إلى مقتل 37 شخصاً لقوا حتفهم بنيران أفراد الأمن التركي، وجرح 761، منهم 326 رجل أمن، حيث اعتُقل على إثرها رئيسا الحزب وقياديون فيه، بعد رفع الحصانة البرلمانية عنهم في 20 أيار (مايو) 2016، بأغلبية الأصوات، بما فيها أصوات أحزاب المعارضة التي صوّتت إلى جانب الحكومة، عدا الحزب الموالي للأكراد بطبيعة الحال.
وفي 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2020 أضيف 17 سياسياً للمعتقلين السابقين في نطاق تحقيق مكتب المدّعي العام في أنقرة في الأحداث، والذي أعدّ لائحة اتّهامات في 30 كانون الأول (ديسمبر) 2020، تطالب "بالسجن المؤبّد المشدّد لـ 38 مرّة" في 29 تهمة منفصلة ضدّ المتّهمين، وعلى رأسهم دميرتاش، الذي وصف القضية في دفاعه الأول بتاريخ 25 كانون الأول بأنها "قضية انتقام سياسي، لا يوجد أي دليل ملموس ضدّنا. لم يتمّ القبض علينا بشكل قانوني، نحن رهائن سياسيون".
صيف ساخن
التصريحات الإيجابية المتبادلة بين السلطة وحزب "المساواة وديموقراطية الشعوب" (ديم)، وهو الذي حلّ محل حزب الشعوب الديموقراطي خوفاً من إغلاق مقار الحزب ومنعه من خوض الاستحقاقات الانتخابية، وقرار الأخير خوض الانتخابات البلدية بمرشّحيه الخاصين، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي تمرّ فيها تركيا وحاجتها إلى تعزيز صورتها الديموقراطية وقضائها المستقل، لتشجيع الاستثمارات الأجنبية، رفعت من سقف التوقّعات ببدء مرحلة شبيهة بمسار السلام مع الأكراد التي شهدتها البلاد في الفترة ما بين عامي 2009 و2015.
وبعد إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عقب لقائه بزعيم حزب الشعب الجمهوري الفائز في الانتخابات الأخيرة أوزغو أوزيل عن بدء مرحلة "الليونة السياسية" داخلياً، توجّهت الأنظار إلى القضاء التركي وتحديداً إلى دعوى كوباني، التي تمّ تأجيل النطق بحكمها لما بعد الانتخابات المحلية في آذار (مارس) الماضي أولاً، وثم إلى ما بعد زيارة إردوغان للبيت الأبيض والتي ألغيت لاحقاً.
لكن صيغة الأحكام التي خرجت من المحكمة ومدّة العقوبات، على رغم النداءات الأوروبية والدولية، وأدَت هذه الآمال، معلنةً عن مرحلة تشدّد في سياسات السلطة ضدّ الأكراد، في ظل مخاوف من أن تمتد حملة التشدّد هذه إلى خارج الحدود في كل من شمال سوريا والعراق.
وعقب إعلان الأحكام، عقد المجلس التنفيذي المركزي لحزب "المساواة وديموقراطية الشعوب" اجتماعاً استثنائياً، وقرّر إقامة تجّمعات عامة تحت اسم "الحرية للجميع، الديموقراطية للجميع" في اسطنبول وأضنة وديار بكر.
وأعرب الحزب عن صدمته من الحكم "على المتهمين بالسجن لمدة 400 عام تقريباً، في وقت يتمّ مناقشة التطبيع والدستور الجديد".
ويرى الصحافي التركي المتخصص في السياسات الداخلية علي كمال إرديم في حديث إلى "النهار العربي"، أن "الحكومة ليس لديها خطة لمبادرة سلام جديدة في الوقت الراهن، وذلك لأن السياسات القومية تلقى تجاوباً في تركيا. ومفهوم التتريك راسخ جداً، وما يقرب من 80-85% من المجتمع يعرّفون أنفسهم بأنّهم أتراك. لذلك، تكتسب السياسات القومية أهمية كبيرة".
ويشير إرديم إلى أنّ "الأكراد لا يدعمون السياسة الكردية ككتلة واحدة، وأصوات حزب ديم وحدها ليست كافية لتحديد السياسة، مقابل جبهة واسعة من القوميين، لذا في الوقت الحالي، ليست هناك حاجة ملحّة لأن يقوم إردوغان بمبادرة كردية، وخصوصاً أن تحالفه مع حزب الحركة القومية الآن أكثر أهمية من أي تحالف آخر، وهو يفضّل الضغط على الأكراد والحركة الديموقراطية".
ردود فعل
من جانبها، وصفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في بيان صحافي "إدانة المحكمة التركية لـ 24 سياسياً كردياً بتهم ملفقة بارتكاب جرائم ضدّ الدولة" بأنها "نتيجة لمحاكمة جماعية سياسية وغير عادلة بشكل واضح".
وأبدى مقرّر تركيا في البرلمان الأوروبي ناتشو سانشيز أمور، ردّ فعل رافضاً، بالإشارة إلى الاجتماعات التي عقدها وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشك في بروكسل الأسبوع الماضي، قائلاً: "يظهر الظلم الذي تعرّض له دميرتاش السبب وراء كون جولات محمد شيمشك للترويج لصدقية الاقتصاد التركي مجرد مضيعة للوقت. مثل هذه الإجراءات والنظام القضائي الخاطئ يُضعفان صدقية تركيا. ولا يمكن لأي شركة الحضور في مثل هذه البيئة، حيث يتمّ التشكيك باستمرار في العدالة".
واعتبرت مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط (مقره واشنطن) غونول تول، في منشور لها عبر منصّة "اكس" أن "قضية كوباني، كما قضية غيزي، سياسية، ومن الصعب على أردوغان تصحيح المسار، لتحالفه مع القوميين الأتراك"، مشيرة إلى أن "دميرتاش يدفع ثمناً باهظاً مقابل تصريحاته"، في إشارة إلى وعده لإردوغان بفعل ما يمكن فعله كي لا ينجح في انتخابات عام 2015 حينما قال "لن نجعل منك رئيساً مرّة أخرى".
يُذكر أن السلطات التركية أعلنت حظر جميع التظاهرات والفعاليات لمدة 4 أيام في ديار بكر، وفان، وبينغول، وماردين، وأورفا، وهكاري، وشرناق، وباتمان، وسيرت، وبيتليس، وتونجلي، وآغري، وقارس، وأديامان، وإلازيغ، وذلك على خلفية القضية.
ولا يزال الطريق سالكاً أمام المحكومين للتوجّه إلى محكمة الاستئناف، قبل أن يكتسب الحكم درجة القطعية.