تدفع الظروف الاقتصادية والمعيشية المتردّية السوريين، وخصوصاً القاطنين في المناطق الواقعة تحت سيطرة التنظيمات المسلّحة المنضوية تحت راية "الجيش الوطني" الذي أسسته تركيا في شمال سوريا ليكون مظلّة جامعة للمسلّحين التابعين لها، إلى محاولة العبور نحو تركيا في ظل انعدام الاستقرار والأمن في المناطق المذكورة خصوصاً.
ورغم تشديد السلطات التركية إجراءاتها الخاصة بضبط الحدود بعد أكثر من 6 سنوات على فتحها أمام اللاجئين السوريين بالكامل، لم تفلح في إيقاف عمليات مرور الأشخاص، وإن أسهمت في تحوّل الظاهرة من موجات لجوء إلى حالات فردية أو ضمن مجموعات صغيرة.
تهريب سوريين بسيارة عسكرية تركية
وأثار الصحافي الاستقصائي التركي باريش تيركوغلو جدلاً واسعاً في البلاد على خلفية تحقيق نشره في جريدة "جمهورييت" التركية العريقة، عن قيام ضباط برتب عالية من الجيش التركي بتهريب سوريين مقابل مبالغ مالية كبيرة.
وكشف الصحافي عن إيقاف الاستخبارات التركية سيارة عسكرية تابعة لعميد في الجيش التركي مكلّف بالخدمة في منطقة شمال سوريا التي تسيطر عليها تركيا، كانت تهرّب السوريين إلى داخل تركيا مقابل مبالغ مالية.
الصحافي الاستقصائي التركي باريش تيركوغلو
ووفق المعلومات التي أوردها تيركوغلو "تم توقيف عسكريين برتب صف الضباط مرافقين للعميد المذكور كانا يقومان بنقل السوريين خلال مداهمة السيارة العسكرية العائدة للضابط بأمر من النائب العام، كونها لا تخضع للتفتيش عادة، فيما تمت إحالة العميد إلى التقاعد، كما تم نقل قائد الفرقة 20 مشاة التابعة لها الوحدة العسكرية العاملة في سوريا والتي يرأسها العميد المذكور، ومقرها أورفا على الحدود، إلى الفرقة 3 مشاة في هكاري بمهمات نائب قائدها من أجل ضمان سلامة التحقيقات".
وكشفت التحقيقات أيضاً أن الواقعة ليست الأولى وأن تهريب السوريين بواسطة سيارات عسكرية تركية منتشر أكثر بين الرتب الأدنى في الجيش التركي.
واعتبر تيركوغلو في حديث إلى "النهار العربي"، أن "خطورة تهريب السوريين مسألة أمنية للمواطنين بالدرجة الأولى، لأنها تعزز عدم القدرة على تحديد الداخل والخارج من حدود الدولة، وما إذا كان هؤلاء الأشخاص سيرتكبون جرائم أم لا".
وشرح تيركوغلو الذي نفذ حكمين بالسجن نتيجة تحقيقاته ومقالاته المعارضة للحكومة، أن "هناك مشكلة أمنية أخرى كون التهريب عبر الحدود يتم من خلال سيارة عسكرية خاصة بعميد، أي الشخص المسؤول عن حماية حدود تركيا، وباسم المؤسسات الأمنية في البلاد"، لافتاً إلى أن "المشكلة الثالثة هي في ملف الرشوة، لأن الأشخاص الذين يتم تهريبهم عبر الحدود، يقومون بهذا العمل مقابل المال. أي أن هؤلاء الأشخاص يمكنهم أيضاً ارتكاب جرائم أخرى مقابل المال".
وبحسب تيركوغلو "هناك جدل كبير في موضوع الجدارة في ما يتعلق بالأفراد المعينين للخدمة داخل القوات المسلحة التركية. هل يستحق هؤلاء المنصب الذي وصلوا إليه؟ عندما يقوم عسكري ببيع أمن حدوده مقابل المال، فهذه مشكلة خطيرة".
3 طرق تتبعها المافيات السورية
يؤكد العديد من السوريين أن الإجراءات التركية المشددة عبر الحدود في السنوات الأخيرة أدّت، إلى جانب تراجع أعداد العابرين إلى تركيا بطريقة غير شرعية، إلى ارتفاع تكلفة عملية العبور بحسب الطريقة والجهة التي تقوم بتهريب الأشخاص.
وبعدما كانت تركيا لسنوات مقصداً لملايين السوريين الهاربين من الحرب ونتائجها السياسية والاقتصادية على أمل إيجاد ظروف أمنية ومعيشية أفضل، غدت اليوم معبراً للوصول إلى السواحل الأوروبية، كونها الطريق الأقل خطورة من الخيارات الأخرى المتوافرة عبر الغابات الفاصلة بين روسيا وبولندا، أو ركوب البحر من لبنان باتجاه قبرص، أو من السواحل الليبية إلى الإيطالية.
وأكد مصدران من بلدتين سوريتين حدوديتين مع تركيا أن "عمليات التهريب مستمرة، ولو بوتيرة أخف"، مقدّرين عدد السوريين الذين يقطعون الحدود باتجاه تركيا يومياً بنحو 100 شخص من مختلف البلدات الحدودية.
أماكن وأسماء
وروى مصدر لـ"النهار العربي" مشترطاً عدم الكشف عن اسمه لخطورة الموقف، وهو من بلدة حدودية شمال حلب، أن "بلدة الراعي تعتبر أحد أهم مراكز تهريب السوريين إلى تركيا، حيث يقود عملية التهريب شخص من أبناء البلدة يسمّى فهيم مع مجموعة من أبناء عمومته وأقربائه، مستفيداً من علاقاته الجيدة جداً مع مختلف الجهات التركية الحكومية والعسكرية والأمنية".
وأكد مصدر آخر من ريف الرقة الشمالي الشرقي قيام "شخصيات محسوبة على فصيل السلطان مراد المسلح التابع للاستخبارات التركية بتهريب السوريين عبر منافذ متعددة، متّخذة من تل أبيض مركزاً لتجارتها".
وبحسب المعلومات التي حصل عليها "النهار العربي" من المصدرين، بالإضافة إلى شاب سوري آخر وصل الشهر الماضي إلى أورفا التركية برفقة شقيقه عن طريق مهرّبين سوريين، فإن عمليات تهريب السوريين لها 3 طرق رئيسية:
- الأغلى، تراوح تكلفتها بين 7 آلاف دولار أميركي و10 آلاف للشخص الواحد كونها الأضمن، إذ يتم تهريب السوريين عبر سيارات تعود ملكيّتها لضباط أتراك موجودين في سوريا بمهمات عسكرية أو سيارات مراسم أخرى تعود إلى عناصر أمنية وموظّفين حكوميين في مكاتب ولاة المقاطعات الحدودية.
- المتوسطة التكلفة، إذ يتم استخراج بطاقات تجارية وصناعية للراغبين في العبور إلى تركيا وتأمين موافقة دخول لهم من خلال غرف الصناعة والتجارة التركية بمبررات القيام بفعاليات ونشاطات تجارية واقتصادية، وهذه الطريقة تكلّف الشخص بين 4 و7 آلاف دولار أميركي، من دون وجود ضمانات بحتمية موافقة الجانب التركي على طلب الدخول.
- الأرخص ثمناً والأعلى مخاطرة، وهي العبور إلى الطرف الآخر من الجدار الإسمنتي من خلال نفق قصير محفور تحتها، أو سلّم حديدي للمساعدة في اعتلاء الشريط الشائك.
وأكد المصدران أن عمليات التهريب التي تقوم بها المافيات السورية بالشراكة مع الجنرالات والمسؤولين الأتراك لا تقتصر على الأشخاص فقط، بل تتضمن أيضاً تهريب المحاصيل الزراعية والآثار وغيرها، فقد تم قبل أشهر تهريب كميات كبيرة من الفستق الحلبي المزروع في المنطقة والوارد من مناطق أخرى إلى عنتاب، وذلك بعد مدة قصيرة من تهريب آلاف الأطنان من زيت الزيتون.
يشير تيركوغلو إلى أنّه "بصرف النظر عن كل هذا، عندما ننظر إلى الصورة الكبيرة، هناك في الواقع مشكلة لاجئين في تركيا خلقتها أخطاء السياسيين. ورغم أن السياسيين هم من يخلقون هذه المشكلة، إلا أن حقيقة مساهمة أفراد الأمن في تفاقمها تشكّل في الواقع مشكلة وتحدياً كبيراً للبلاد".