النهار

ملف كابلان: ضربة المافيا وأمن أنقرة لوزير الداخلية التركي الجديد؟
سركيس قصارجيان
المصدر: النهار العربي
إلى جانب تحسين الصورة الخارجية، ثمة هدف آخر لحملة وزير الداخلية الأمنية الأخيرة، تتمثل في اجتثاث المنظومة الأمنية والبيروقراطية التابعة أو الموالية لسابقه سليمان صويلو، التي تربطها علاقات مع المافيا المحلّية وتعاون مع المافيا الخارجية.
ملف كابلان: ضربة المافيا وأمن أنقرة لوزير الداخلية التركي الجديد؟
وزير الداخلية التركي الجديد علي يريلكايا.
A+   A-
تتواصل في تركيا محاكمة المافيوزي أيهان بورا كابلان التي لا تزال تثير اهتمام الرأي العام وتكشف عن أسرار العلاقة بين الأمن والسياسة والمافيا.
 
ففي 7 أيلول (سبتمبر) 2023، ألقت الشرطة التركية القبض على كابلان ومرافقيه أثناء محاولته الهروب من البلاد عبر مطار إيسنبوغا في العاصمة أنقرة، في خطوة فسّرت على أنها استكمال للحملة التي أطلقها وزير الداخلية التركي الجديد علي يرليكايا، بعد شهرين من تسلمه منصبه، ضد عالم الجريمة المنظّمة وزعمائها.
 
قرار توقيف كابلان أثار اهتماماً إعلامياً كبيراً في حينه بسبب الهالة المحيطة به كأحد زعماء المافيا المحميين من الدولة، وبعث الأمل والتفاؤل بإنهاء سنوات الشراكة غير المعلنة بين المافيا والشرطة والقضاء في تركيا، والتي أدّت، إلى جانب الكثير من المشكلات والأحداث داخلياً، إلى تراجع ثقة الجهات الخارجية بوضع البلاد أمنياً واستثمارياً، وتسببت في إدراج مؤسساتها المالية والمصرفية في اللائحة الرمادية على خلفية شبهات غسيل الأموال وتحويلها إلى وجهات محظورة. 
 
تركيا في اللائحة الرمادية للجرائم المالية
تهدف الحملات الأمنية المتلاحقة التي أطلقها وزير الداخلية منذ منتصف حزيران (يونيو) الماضي إلى تغيير صورة البلاد في الخارج، بعد التقارير التقنية والإعلامية الدولية التي باتت تركّز على تحوّل تركيا إلى وجهة مفضلة لزعماء المافيات المطلوبين على مستوى العالم بتهم الإتجار بالأشخاص والمخدرات والنصب والاحتيال وغيرها من الأفعال المدرجة ضمن بنود الأخطر لناحية الملاحقة الأمنية جرمياً ومالياً.
 
وقد تسبب إصدار عشرات الإعفاءات العامة من الكشف عن مصدر الأموال الواردة إلى تركيا في تصنيف البلاد في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 ضمن القائمة الرمادية، لعدم التزام الحكومة التركية معايير مكافحة الأموال السوداء ومنع تمويل التنظيمات الإرهابية في قطاعي البنوك والعقارات خاصة.
 
وتزامن نشاط السلطات التركية في اعتقال شخصيات مطلوبة للشرطة الدولية (الإنتربول) بالنشرة الحمراء، مع إعلان المصارف التركية تقيّدها بالإجراءات المتّبعة عالمياً لناحية حظر التعامل اقتصادياً ومالياً مع روسيا المعاقبة دولياً بسبب الحرب الأوكرانية.
 
وعلى إثر ذلك أعلن مسؤولون من مجموعة العمل المالي (FATF)، المعنية بتحديد المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح ومراقبتها، والعاملة ضمن نطاق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، إجراء عمليات تفتيش ميدانية واتصالات تمهيداً للتقرير المقرر نشره في شهر حزيران (يونيو) المقبل.
 
وسيشكل التقرير الذي أعده الفريق الزائر لتركيا الأساس للقرار الذي سيُعلن في 28 حزيران لناحية إخراج تركيا من اللائحة الرمادية أو إبقائها، وقد أعطت المجموعة في تقييمها الأخير في شباط (فبراير) الماضي رسائل إيجابية لجهة خروج تركيا من القائمة الرمادية، معلنة أنّها أوفت بالتزاماتها إلى حد كبير.
 
ويقلل وجود تركيا في القائمة الرمادية من قدرتها على التعامل مع البنوك والمستثمرين الدوليين، ويأمل الخبراء أن تسهم إزالتها من القائمة في تحسّن وضع الليرة التركية.

حملات ضد زعماء المافيا المحليين والأجانب
إلى جانب تحسين الصورة الخارجية، ثمة هدف آخر لحملة وزير الداخلية الأمنية الأخيرة، تتمثل في اجتثاث المنظومة الأمنية والبيروقراطية التابعة أو الموالية لسابقه سليمان صويلو، التي تربطها علاقات مع المافيا المحلّية وتعاون مع المافيا الخارجية.
 
في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلنت الداخلية التركية القبض على هاكان أيك، زعيم عصابة كومانشيرو الأسترالية في إسطنبول، والمطلوب بنشرة حمراء من الولايات المتحدة وأستراليا بتهم الإتجار بالمخدرات والقتل والنهب والحرق العمد وغسل الأموال.
 
كذلك ألقت الداخلية التركية القبض على دواكس هوهيبا نجاكورو، المطلوب أيضاً من نيوزيلندا بإشعار أحمر.
 
وبعد يومين، قُبض على ماكسيميليان ريفكين، السويدي من أصل صربي الحامل للجنسية التركية أيضاً تحت اسم جيم جانسو، والمطلوب من الولايات المتحدة والسويد بالتهم ذاتها.
 
وفي 9 تشرين الثاني قُبض في أنقرة على جاموخان أولوس زعيم مافيا تجارة المخدرات في آسيا الوسطى.   
 
وفي 10 تشرين الثاني ألقي القبض في اسطنبول على بنيامين بيريز غارسيا، زعيم كارتل كومبانيو بيلو في كولومبيا.
 
كذلك ألقي القبض في اسطنبول أيضاً على الألباني دريتان ريكسيبي، المطلوب من إيطاليا وألبانيا بتهمة تهريب المخدرات من أميركا الجنوبية إلى أوروبا، والقتل، والاختطاف، وفي حوزته جواز سفر تركي، وقد أعلنت وسائل إعلام عالمية في حينه عن "القبض على بابلو إسكوبار الألباني".
 
حملات وزير الداخلية توالت طوال الفترة الماضية لتستهدف المافيات التركية في أنقرة واسطنبول وأزمير ومرسين، لكن أبرزها كان إصدار مذكرة اعتقال بحق كابلان بتهم "إنشاء منظمة لارتكاب الجرائم" و"الإيذاء المتعمّد" و"الاختطاف وحبس الحريّات بالقوة"، وقد أُلقت القبض عليه المحكمة الجنائية في أنقرة في 12 أيلول (سبتمبر) الماضي، إلى جانب 13 من أصل 28 شخصاً آخرين موقوفين في نطاق الحملة، وصدر أمر مراقبة قضائية بحق 15 مشتبهاً بهم.
 
وعلى رغم سجلّه الحافل في العقد الأول من القرن الحالي بأحكام السجن بتهم الخطف والإيذاء العمد وتجارة المخدّرات، إلا أن تركيا تعرّفت إلى أيهان بورا كابلان بعد محاولة الانقلاب في 15 تموز (يوليو)، حين انتشرت صورته هو ورجاله حاملين البنادق الآلية أمام المديرية العامة لقناة "TRT" الرسمية لحمايتها.
 
استدعى كابلان لهذه المهمّة وزير العمل آنذاك سليمان صويلو، حين اتّصل به عبر هاتف ابن عمه صادق صويلو صديق كابلان.
 
بعد أدائه "المهمّة الوطنية"، صعد نجم كابلان بسرعة كبيرة، ليتحوّل من شخص مطلوب إلى شخصية "لا يمكن المساس بها"، وأصدرت أحكام بـ"الكفّ عن المحاكمة" في 56 تحقيقاً ضدّه بتهم تهريب المخدرات، وإنشاء تنظيم لارتكاب الجرائم، وتزوير مستندات رسمية، والإيذاء العمد، والسرقة، وتزوير العملات، ومقاومة السلطات الأمنية أثناء القيام بواجبها، وذلك بتوقيع من مدّعي عام أنقرة يوكسيل كوكامان الذي شغل المنصب بين عامي 2017 و2020، الذي اتّهم لاحقاً بتلقي الرشى من كابلان على شكل منزل فاخر وسيارة فارهة ومبالغ نقدية كبيرة.

جهاز الشرطة حالياً ليس أقل فساداً
استند وزير الداخلية في قراره توقيف كابلان إلى شهادة صديق مقرّب هو أحد معاونيه، ومدير شركة النقل التي يملكها المافيوزي التركي. وقد كشفت الفضيحة المعروفة باسم "شاحنات الاستخبارات التركية" استعانتها بشاحنات شركته لنقل الأسلحة إلى المجموعات الجهادية في شمال سوريا منتصف العقد الماضي.
 
قدّم الشاهد السرّي، المكنّى بكود "أم7" إفادته المؤلفة من 19 صفحة ضد كابلان وعلاقاته بالحكومة والمنظومة السياسية والأمنية والمالية التركية، نتيجة صفقة منح بها في المقابل استبدال الحجز المنزلي بقيد إلكتروني بأحكامه التي قد تصل إلى السجن المؤبد.
 
لكن، في اللحظة التي اعتقد فيها وزير الداخلية الجديد أنّه نجح في النيل من سابقه ومنظومته الأمنية والبيروقراطية، ظهر الشاهد السرّي سيردار سارتشيليك في حوار عبر قناة الصحافي التركي أرك أجارير على "يوتيوب" بعد هروبه من البلاد في ظروف مريبة، إذ لم يتم الإبلاغ عن انقطاع إرسال قيده الإلكتروني إلا بعد 8 ساعات، لتكشف مداهمة منزله عن اختفاء أثره عبوراً إلى اليونان.
 
قلب سارتشيليك الطاولة على وزير الداخلية التركي، متحدّثاً عن ضغوط مورست عليه من ضباط الشرطة المحققين معه من أجل إقحام أسماء وزير الداخلية السابق ورئيس البرلمان السابق وشخصيات أمنية وشرطية رفيعة المستوى في أفادته التي وقّع عليها من دون أن يقرأها، بحسب قوله.
 
ونشر سارتشيليك تسجيلات صوتية لضباط شرطة رفيعي المستوى يطلبون منه عبر الهاتف إقحام أسماء أخرى في إفادته قائلين "العلاقات بين أردوغان وشريكه ليست على ما يرام... فلْننتهِ من هؤلاء"، في إشارة إلى شخصيات محسوبة على حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف.
 
اعتبر المحللون الأتراك ما حدث "ضربة من المافيا لوزارة الداخلية التركية"، فيما أعلن حزب "الحركة القومية" أن ما قامت به الداخلية التركية "انقلاب" على "ائتلاف الجمهور".
 
على إثر ذلك استدعى الرئيس التركي كلاً من وزير العدل ورئيس جهاز الاستخبارات الوطنية إلى القصر الرئاسي، وتم توقيف 4 ضباط شرطة وتسلّمت الاستخبارات التركية الملف.
 
يرفض الصحافي التركي أرك أجارير في حديثه إلى "النهار العربي" وصف الحدث بانقلاب المافيا فقط، قائلاً: "مديرية أمن أنقرة مشاركة للمافيا في هذه الضربة، كونها تابعة لوزير الداخلية السابق سليمان صويلو"، وأضاف "لكن ذلك لا ينفي وجود ضباط شرطة فاسدين متورّطين في الملف".
 
الصحافي التركي أرك أجارير
 
ويروي أجارير المتابع للملف منذ عام 2015، أن "القضاء والبيروقراطية التركية سهّلا عمل كابلان حتى نهاية عام 2023، أي ذهاب وزير الداخلية صويلو، حيث تقرر توقيفه، ما يعني أنّه تم في البداية تسهيل عمله لأغراض مختلفة، ومن ثم ابتزازه للحصول على رشى ومنافع مادية".
 
وفيما لا تزال دعوى كابلان القضائية مستمرة، فإن إيحاءاته خلال الجلسة الأخيرة من محاكمته قبل أيام باستخدامه لهجة مشابهة للهجة حديث وزير الداخلية السابق وكلماته، دفعت بالمراقبين إلى الاعتقاد بكونه تهديداً مبطّناً منه لصويلو وفريقه بضرورة التدخّل قبل أن يكشف عما في حوزته من أسرار قد تحدث هزّة في الجسم الأمني والبيروقراطي التركي.
 

اقرأ في النهار Premium